تتفتّق الأفكار كلَّ فترة من الزمن عن مخترعات تُرهَن لفائدة البشرية، تلاحقت في القرن العشرين، وتسارعت في العقدين الأوّلَين من القرن الواحد والعشرين، بعضها لم يكن لفائدة البشرية بل لفوائد عسكرية، لصالح إحداث أكبر قدر من القتل والدمار.

لم تتخلّف عن الاستفادة من هذه الاختراعات أنظمةُ الحكم في الدول الدكتاتورية والديمقراطية على السواء، وكانت لكلٍّ منها طرائقها في استغلالها، أو حصر استخدامها. أتاح أغلب هذه الابتكارات مؤخَّراً السيطرة على وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، بغرض استثمارها لتطويع الرأي العام، من خلال حملات دعائية استأثرت بالعقول. كانت بالدرجة الأولى لتجميل سياسات مؤدلجة، لتسويق نظم الحكم، سواءٌ كان في تداول السلطة عبر صناديق الانتخاب، أو بالقمع، أو بالوراثة. وكانت لكلٍّ منها أساليبها في تمرير دعاواها. المهمّ البقاء على سدّة الحكم أطول فترة ممكنة، تُقدَّر أحياناً بما يزيد عن فترتين رئاسيتين، مع أنّ الطموح إلى أكثر، ربما ثلاث أو أربع دورات.

من حسن حظ الشعوب عدم توفُّر الأبد على الأرض، أي على كوكبنا، وإن درجت الموضة أن يكرّس بعض رؤساء الدول طاقاتهم للبقاء إلى زمن يتمنّون ألّا يقل عنه، ويأملون من الطبّ تذليل مسألة العمر بمدّ سنوات الشيخوخة إلى ما لا نهاية، ولا يُستبعد أن يفكّر زعماء تاريخيون في تجميد أجسادهم إلى زمن لا نهائي، وأن يستحثّوا مراكز الأبحاث على إرجاع أعمارهم إلى الوراء، عسى يستعيدون شباباً عصياً على نوائب الدهر.

” سياسيّون ومثقّفون يلفّقون استعادة مقولات ثبت بطلانها”

هذا في حال وثقوا بمن سيأتي من بعدهم، وأقنعوهم بأن مقاليد الحكم ليست إلّا أمانة لديهم، ريثما يسترجعون حياتهم مع شباب دائم. لكن لو نظروا إلى أبعد من أنوفهم، فلا ثقة بالوكيل في مسائل السلطة، ولو كان من صنف الملائكة، أول عمل سيقوم به بعد وفاة سيّده، رغم التعهُّد بالسير على خطاه، دفنه وسحق إرثه… هذا من دروس التاريخ القريب والبعيد، من دون طبّ وتجميد وطمع بشباب متجدّد. لكن ماذا لو جاء عهد وأعادهم إلى الحياة؟ يُستحسَن ألّا يأملوا كثيراً، لن يكون إلّا لجعلهم مادّة للفرجة والسخرية.

هذا بالنسبة إلى البقاء إلى ما بعد، بينما المشكلة حالياً بالنسبة إلى هذه الأنواع من البشر الطامحين للسلطة التحرّي عن الأساليب الناجعة للبقاء على سدّة الحكم، خاصّةً مع بدء زوال الفوارق بين الأنظمة، بعدما بات أغلبها يميل نحو الشمولية. من حسن حظّهم أن الأزمات السياسية لا تضنّ عليهم بحلول مهما تنوّعت، لا تزيد عن التأثير في الناخبين بخطابات الوعود بالرخاء، وإن كانت مبتذلةً ومتداولة، خاصّةً أنَّ الحدود بين الأنظمة باتت متداخلة، وفي سبيلها إلى التماثل، وقد يستعير الديمقراطي أساليب الدكتاتوري، أو بالعكس، تتجلّى في تخيير الشعب بين النظام أو الإرهاب، الفوضى أو الاستقرار، السلام أو الحرب، الحضارة أو التخلُّف، زاد عليها ما يحصل من فترة لأخرى، وذلك باستثمار الكراهية، والتلويح بطرد اللاجئين والوافدين، بتصنيفهم من الأجناس الرثّة في سلّم الحضارة الشاهق. اللافت في هذا الاستثمار أنه لا فرق بين دول غربية أو شرقية، كبيرة أو صغيرة.

ولا نضيف جديداً، إنه ليس من جديد تحت الشمس، ولو بدت العناوين متباينة أو مختلفة، لكنها متطابقة، ولو غُلّفت العناوين القديمة بأغلفة توحي بالجدّة، وتؤدّي الغرض نفسه. ما دام الشائع أيضاً، هو التخيير بين الكفر والإيمان، الجنة والنار، الشيطان والرحمن… وسارياً حتى الآن، بعدما بات من الممكن تسييس كل شيء دونما تمييز. بالتالي، لا تسل كيف استطاعت قلّة مختارة الحصول على الجنة من دون إيمان، وهي القلّة نفسها التي تخيّر شعوبها بين النظام أو الإرهاب.

هذا الشطط والانتقال من فكرة إلى فكرة بالتداعي ومن دون ضابط، أحد أسبابه أن سورية في البال على الدوام، وفره هذا الواقع الذي يحدث فيه كل شيء، طالما هناك أجهزة وسياسيون ومثقّفون يلفّقون من جملة ما يلفّقونه استعادة مقولات ثبت بطلانها، وتجديدها، لكن البشر لم يتوافقوا على نظام ولا على رئيس إلّا ليضمن لهم الأمان والاستقرار والسلام…. لا على دكتاتور يفتعل الفوضى ويساومهم على حياتهم وأمانهم، أو وكيل للرحمن يتاجر بالجنة والإيمان.

ولنتذكّر دائماً أنّ أيّ دعوى لا تأبه بالإنسان بالدرجة الأولى، فحماقة يلفّقها حمقى يتساوون مع المجرمين، أو أنهم المجرمون.