لطالما تردّدت اقتراحات حول القطيعة مع الماضي، بافتراض أنّ هناك دعوات جادّة للعودة إلى الماضي، للاسترشاد به، أو السير على خطاه، أو لاستكمال مسيرته من حيث انقطع. تتعالى هذه الأصوات في فترات التحوّلات الكبرى، بين طرفٍ يعتبر الماضي عبئاً علينا، إن لم يُثقل توجّهنا نحو الأمام، فهو يعرقلنا، وينحو إلى استعادة ما بات وهماً لن يُستعاد، ما يشغلنا عن صناعة المستقبل، قضيتنا الأساسية التي تتعارض مع الرِّدّة إلى الماضي. بينما العمل جارٍ على التحرّر من سردية الماضي الكبرى، فالقادم أمامنا، وليس خلفنا.
الاتجاه الداعي إلى محو الماضي لا يعبّر عن رغبة في النسيان فقط، بل أحياناً عن الإحباط أو الخوف من مواجهة ما يكشفه التاريخ لنا من تناقضات ومآسٍ. ما يُسهِم في تحوّله إلى عنصر غير مريح، يُراد التخلّص منه لصالح حاضرٍ يتلخّص بلحظةٍ من دون جذور ولا امتداد. في هذا السياق، لن يُنتَج الإنسان ويُعاد إنتاجه إلا وفق حاجات السوق، فاقداً الاتصال بماضيه.
طبعاً، لا ينبغي النظر إلى الماضي نظرة تقديس أعمى. هناك صفحات مظلمة، وانحدار، وانحطاط، وسقطات لا يمكن الدفاع عنها، وأخطاء يجب نقدها. لكن، مثلما يُقال إنّ تاريخنا عبارة عن انكسارات لا تخلو من فترات مضيئة، يمكن أن يُقال إنه تاريخ عظيم لا يخلو من فترات مظلمة. وبنظرة عامة، لا يتميّز التاريخ الإنكليزي أو الفرنسي، ولا يتفوّق على التاريخ العربي مطلقاً، فلماذا نريد التخلّص من تاريخنا، بينما الآخرون يفخرون بتاريخهم؟
المهم والأساسي، ألا يعني نقد التاريخ كفّ النظر عنه وإرساله إلى العدم، بل قراءته بوعي، وإدراك تعقيداته، ومواجهته بشجاعة أخلاقية. من دون الوعي، تفقد المجتمعات القدرة على التعلّم من تجاربها، وتُعيد الوقوع في الأخطاء نفسها، غالباً بعقلية تعاني الهلوسة.
إغفال التاريخ لا يُنتج إنساناً جديداً، بل يُنتج كائناً هشّاً، فاقداً للمعنى
الإنسان كائنٌ تاريخيٌّ في الأساس. لا يمكن فصل الذات الإنسانية عن ذاكرتها، كما لا يمكن فصل أمة عن تاريخها من دون أن تفقد جزءاً من كيانها. فالتاريخ لا يُشكّل فقط سرداً لما جرى، بل هو بنية عميقة تتشابك فيها القيم والمعاني والتجارب. هو مرآة تُظهر لنا كيف كنّا، ثم كيف أصبحنا على ما نحن عليه، ما يساعد على فهم الحاضر، وقد يصبح الطريق إلى ما بعد أكثر استقامة عبر فهمه، والاشتباك معه بصدق.
إنّ الذين يأملون في الإبحار إلى المستقبل على جثة الماضي، سوف يجدون ببساطة أنّه يعود بقوة. وإنّ انبعاث الدين عالمياً هو أحد الأمثلة على هذه العودة للمكبوت.
إنّ محو الماضي، سواء أكان فعلياً أم رمزياً، ليس مجرّد خيار ثقافي، بل موقف وجودي خطير يحمل في طيّاته تهديداً مباشراً لهوية الإنسان ومعنى وجوده. وأن يفقد الإنسان القدرة على تذكّر تاريخه، يعني أن يفقد القدرة على فهم ذاته، ويصبح مثل شخص يعاني فقدان الذاكرة، تائهاً، قابلاً للتوجيه من أي سلطة أو سردية جديدة تُفرَض عليه. إنّ الوعي يفترض الاعتراف والمساءلة والتعلّم، أما المحو فيفترض النسيان والتجاهل والقطع.
فالتاريخ ليس سلسلة من الوقائع فقط، بل هو مساحة للحوار بين الأجيال، بين الذاكرة والواقع، بين ما كان وما يجب أن يكون. حين يُشطب الماضي، يُقطع هذا الحوار، ويفقد الإنسان جذوره، ويُصبح بلا مرجعية. ما يجعله خطراً، إذ لا يمكن للإنسان أن يكون كائناً مكتملاً من دون ماضٍ، ليس لأنّ الماضي مثالي أو يستحق التقديس، بل لأنه جزء من النسيج الذي يُشكّلنا.
إغفال التاريخ لا يُنتج إنساناً جديداً، بل يُنتج كائناً هشّاً، فاقداً للمعنى.
-
المصدر :
- العربي الجديد