المقصود عودة الرومانسية إلى الأدب، وليس إلى المجتمع، فالمجتمع يحكمه الواقع ولا سبيل إلى تحريره منه. أما في الأدب، ولو كانت الرومانسية من صنيعة الروائيين، فإن القرّاء لولا إقبالهم عليها، لما أصبحت ظاهرة لافتة، بعد الجائحة الجنسية في السينما والرواية، التي تشهد انحساراً، أحد أسبابها الملل، عدا ما طرأ عليها من ابتذال وانحطاط.

ما السر حول التغيّر في نظرة المجتمع الأدبي إلى الروايات الرومانسية؟ قبل عقد، كان يُنظر إليها باستخفاف، لدرجة أن الصفحات الأدبية لم تكن تشير إليها بذريعة سذاجتها، تصلح للمراهقين والمراهقات الذين ينظرون ببراءة إلى قصص الحب، ولا يعلمون ما تتركه وراءها من شقاء، وربّما جرائم، تختلف عن تلك الآلام اللذيذة المصاحبة لسهر الليالي.

الآن، أصبحت الصحافة الغربية الثقافية تُراجع الروايات الرومانسية بانتظام، وتُخصّص لها جلسات نقاشية في الفعاليات الأدبية، ويُدعى مؤلّفوها للتحدّث عنها. ما يشير إلى تغيير يُمكن الادعاء أنّه تحوّل في الأجواء الأدبية، حيث بدأت الأماكن المحظورة على الرومانسية سابقاً تفتح أبوابها لها. كما أنّ دور النشر تدّعي أنّها باتت الأكثر مبيعاً، وبعدما كانت المكتبات لا تهتم بها ولا تظهرها إلا حسب الطلب، بينما الآن، تُعرض في الواجهات، وتحتلّ ممرات كاملة في المكتبات الكبيرة. عدا أن صناعة النشر هي أوّل من يلاحظ أنّ الروايات الرومانسية تُحقق مبيعات ضخمة، ما يحافظ أحياناً على تشغيل المطابع ليل نهار، ويفسر اهتمام معارض الكتب والنشاطات الأدبية بها.

أصبح للقارئ صوتٌ مسموعٌ في تشكيل الذوق الأدبي العام

يمكن ربط هذا التحوّل في نظرة المجتمع الأدبي الغربي للروايات الرومانسية بتغيّرات أوسع في الثقافة الشعبية، والتي شهدت في العقود الأخيرة اختراقاً لما كان يعتبر ثقافة راقية وتكريساً لما يُعتبر ثقافة شعبية. هذا التحوّل لا يعكس ارتداداً بقدر ما يعد تطوراً في الذوق العام الذي أصبح أكثر تعددية، ما سمح بتقبّل أنواع أدبية كانت تُعتبر سابقاً خفيفة أو غير جديرة بالاهتمام النقدي.

فقد كان هناك فصلٌ بين الأدب الجاد، مثل الأدب الكلاسيكي والروايات الفلسفية، وبين الأدب الشعبي: الرومانسي، والخيال العلمي، والرعب، والبوليسي. لكن مع ظهور ثقافة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بدأت الفجوة بينهما تتلاشى، وأصبح لكل قارئ مجالٌ للتعبير عن آرائه دون الرجوع إلى النقاد المعروفين، أي بات للقارئ صوتٌ مسموع في تشكيل الذوق الأدبي العام، ولم تعد السلطة النقدية مقتصرة على النخبة الثقافية أو الصحف الأدبية الكبرى، ما أدى إلى إعادة تقييم الأنواع الأدبية التي كانت تُهمَّش سابقاً.

هذا التحوّل يعكس نقاشاً أكبر حول تعريف ماهية “الأدب الجيد”. هل يُقاس بالقيمة الجمالية والفنية فقط؟ أم أنَّ تأثيره العاطفي والشعبي يستحق الاعتراف أيضاً؟ الروايات الرومانسية، رغم بساطتها الظاهرة، فإنها تكشف عن تعقيد العلاقات الإنسانية والهويات الشخصية، ما يجعلها ذات صلة وثيقة بالعصر الحالي.

هناك من يراهن على أنَّ عودة الرومانسية ليست مجرد نزوة مؤقتة، بل تعكس تحولاً ثقافياً عميقاً نحو مزيد من تقدير أنواع أدبية مختلفة. إنه انتصار للذوق الشعبي ودليل على أن القيم الثقافية ليست ثابتة، بل تتطوّر مع الزمن ومع تحوّلات المجتمع.

ماذا عن الرواية الرومانسية العربية التي بلغت أوج تألقها مع لطفي المنفلوطي وعبد الحليم عبد الله وجبران خليل جبران ويوسف السباعي وغيرهم، ثم توارت عن الأنظار؟ وإذا كانت روايات عبير حلت محلها، لكنها كانت أقرب إلى السطحية. ترى هل نشهد عودة لها، بحيث تُنسب لكبار الكتّاب؟ لا يخلو التدفّق الروائي العربي من محاولات، وربّما مع الوقت وتزايد القرّاء قد تظفر بعودة مرموقة.