منح “الزلزال” مبرراً قوياً لإقدام الحكومات العربية على التحرك نحو سوريا، وإبداء التضامن نحوها بالمساعدات، أعقبتها بالإعلان عن نواياها في التطبيع مع النظام السوري، مع أن تعبير التطبيع اقتصر على العدو الصهيوني، ثم استعمله الأتراك، وجاء اليوم دور الحكومات العربية لاستخدامه عنوانا لطرح هذه المبادرة، ليس على الشعب السوري كما هو واضح، فالتفاوض سيكون مع النظام. أما الشعب فخارج هذه الترتيبات الشكلية.
عندما ترغب حكومة عربية بالإقدام على خطوة مرفوضة من الرأي العام المحلي أو العربي، ترفع من عيارات شروطها، لتقنع غير المقتنعين بها، أو المعنيين بها، بأنها لن تهدر حقوقهم، بقدر ما سوف تحفظها. فما بالنا بإجماع أغلب الحكومات العربية على خطوة هي مخاطرة غير مضمونة، لأن المبادرة هي نحو النظام بينما المستهدف بها فعلا، هو الشعب السوري. لذلك يبدو التحدي واضحا، هل هي لإنقاذ الشعب أو النظام؟
ما سُرب من معلومات حول المبادرة ليس إلا أن بعض المواقع نشرت فحواها، وتتلخص بالطلب من النظام السوري التوقيع على اتفاق من عشر نقاط.
“التفاوض الجدي بين النظام والمعارضة، تمهيدا للوصول إلى اتفاق سياسي بموجب القرار “2254” ما يعني الذهاب إلى تعديل دستوري واسع يتضمن تشكيل هيئة انتقالية
قبل البدء، لن ندخل في التفاصيل، لأن المبادرة لا تتحرش بالتفاصيل التي يَزجُ فيها الشيطان ألاعيبه. فلم تزد عن عناوين أو رؤوس أقلام، لن نذكر إلا المهم منها أو بيت القصيد، وهي “إطلاق سراح عشرات المعتقلين، بما فيهم المعتقلون السياسيون”. هل هو خطأ مطبعي عندما يذكر عشرات المعتقلين مع أنهم آلاف مؤلفة؟ إلا إذا كانت قد جرت تصفيتهم في المعتقلات والسجون، ولم يبق منهم سوى العشرات، لا ندري إن كان هذا التسامح من العرب لإرضاء النظام بعدد يقارب المئة ألف.
النقطة التالية، “التفاوض الجدي بين النظام والمعارضة، تمهيدا للوصول إلى اتفاق سياسي بموجب القرار “2254” ما يعني الذهاب إلى تعديل دستوري واسع يتضمن تشكيل هيئة انتقالية. أي ما تعب السوريون في الحصول عليه سيتحقق بموجب القرار الأممي، مع أن المفاوضات حول الدستور ما زالت تتعرقل منذ سنوات، ما أكد قدرة النظام على المماطلة وإتقان المناكفة، مع توافر خبرات إيرانية ودعم روسي. وفي هذا الأمر الكثير من العقبات التي يأخذ تذليلها عشرات السنين، إن لم نقل المئات، أم حان أوان استسلام النظام وشركائه؟ وهو أمر مستبعد، عندما يُظهر الإعلام السوري أن الدول تهرول إلى القصر الجمهوري للاعتراف به والاعتذار عما سلف.
عدا ذلك المطلوب عدم توقيع اتفاقات استراتيجية اقتصادية وعقارية مع إيران، وإبعاد القوات الإيرانية من جنوب سوريا، والكشف عن معامل تصنيع الكبتاغون وآليات تهريبها وتصديرها إلى الدولة العربية. المقصود وضع حد للتغلغل الإيراني، وإيقاف عمل المصانع العشوائية الممتدة على طول البلاد. أخيرا دخول قوات عربية إلى سوريا تسهم في ضبط الحدود وتأمين مناطق آمنة حقيقية بإشراف عربي دولي، لإعادة اللاجئين إلى مدنهم ومناطقهم.
من دون إطناب، تحتاج المبادرة العربية إلى معجزة، بحسب تجارب استمرت اثني عشر عاما من المباحثات والمفاوضات غير المجدية، لم تنجح إلا في إضاعة الوقت، والمزيد من التدهور من قاع إلى قاع. خلالها، كان السوريون وحيدين، بينما كان العالم يزعم أنه معهم. فلماذا لا يتكرر هذا مع الحكومات العربية؟ مع هذا، تعتبر خطوة جيدة محاولة العرب التوصل إلى حل للمعضلة السورية، وهو أمر كان مطلوبا منذ بداية الأزمة، وإذا كانت قد تأخرت، لكنها مازالت مطلوبة، فلا إيران أو تركيا، ولا الروس والأميركان لهم مصلحة بالمساهمة بحل لها، إلا من خلال مصالحهم، وبما أن مصالحهم متناقضة ومتضاربة، سوف يبقى المعتقلون معتقلين، والشعب السوري الذي عانى من الحرب، يكمل مسيرته في معاناة الجوع والبرد والغلاء في سوريا الدولة الفاشلة، وستبقى فاشلة، ما دام هناك نظام لا أفق له إلا في نهبها وإذلال شعبه في لقمة عيشه.
هذه النقاط جميعها، رفضها النظام طوال سنوات الثورة والحرب، وكبد السوريين ضحايا بالملايين ما بين شهداء ومهجرين ونازحين ومعوقين ومعتقلين ومخطوفين، كانت ثمنا باهظا، لم يدفعه إلى التراجع خطوة واحدة نحو التفكير جديا بعدم التعامل مع شعبه من خلال أجهزته الأمنية. وهو ما أدى إلى أن يكون السوريون وحدهم من شعوب الجوار والعالم كله المحرومين من جميع الحقوق، وحتى النزر اليسير منها، وهو في الواقع لاشيء يذكر، يعتبر مكرمة من الرئيس، وهي ما فضل عن سرقتهم.
ليس من حاجة لإقناع ما تعرفه الحكومات العربية قاطبة، أن هذا النظام مكروه من السوريين، وأن الأسرة الحاكمة تصر على البقاء في السلطة، ولو كان في القتل وإشاعة الدمار، وأن رأس النظام يريد ضمان حكم البلد لذريته من بعده، مثلما ورثه عن أبيه، ولن يفرط به إلا لأولاده. وأنه لا جدوى من التطبيع مع نظام أعمل في السوريين آلة القمع طوال ما يزيد على نصف قرن.
لم يطرأ تغيير على هذه المعادلة. النظام مازال كما هو، أسرة حاكمة وأجهزة أمنية وجيش الحواجز وشبيحة الخوات.. هل هؤلاء هم الذين سيفاوضهم العرب؟
والسؤال، ما الذي تغير حتى يقبل النظام بشروطهم، فإيران وميليشياتها ماضية في تمزيق النسيج السوري، والروس ألحقوا سوريا كحليف لهم ومؤيد لحربهم في أوكرانيا، مع التعهد بحمايتها في مجلس الأمن. لم يطرأ تغيير على هذه المعادلة. النظام مازال كما هو، أسرة حاكمة وأجهزة أمنية وجيش الحواجز وشبيحة الخوات.. هل هؤلاء هم الذين سيفاوضهم العرب؟ إذا لم يجر التخلص منهم وتقويض الأجهزة الأمنية وإصلاح الجيش، لن يتوفر لها أدنى قدر من النجاح.
إن كل ما يفكر فيه العرب، إذا سلمت النوايا، لن يجد على الأرض مردوداً، إن لم يتحلل هذا النظام، ولا يبقى له أثر في سوريا.. إذا لم تكن هذه القفزة في برنامج التفاوض والتطبيع، فلن تكون إلا نحو المجهول، وهو ما يراهن عليه النظام.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا