الحداثة، سليلة الحركة الإنسانية النهضوية التي ابتدأت في القرن السادس عشر، وصلت إلى ذروتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحقّقت أكبر حضارة على وجه الأرض، حضارة القرن العشرين. هذه الحضارة التي نَعِمَ بها نصف سكّان الأرض، وحاول النصف الثاني، إن لم يكن زرْعَها، فنقْلَها إلى بلدانهم، سواء مع بعض التعديلات، أو من دونها. وهي، عموماً، واجهتْ في منطقتنا عسراً شديداً بسبب الانقلابات. كانت شهيّة العسكر تتّجه نحو التغيير؛ الديمقراطية لم ترُقْ لهم؛ وجدوا الدكتاتورية أكثر فعاليّةً: لن يُقلق طمأنينتهم زعيقُ ممثّلي الشعب في البرلمان بالمناقشات وجدلٌ لا يجدي.
الأكثر طمأنينة أن الديمقراطية أصيبت في القرن الماضي بضربة قاصمة من بلدان الشموليّات، هدّدت الحضارة في الحرب العالمية الثانية إلى حدٍّ شارفت فيه على السقوط، وكادت أن تنتهي معها قصّة الديمقراطيات وتبدأ قصة عودة البربرية، وهيمنة الطغيان.
ظهرت النزعة الإنسانية والنهضوية في العصر نفسه الذي ظهر فيه الإصلاح الديني في أوروبا؛ تزامنت مع حركة مارتن لوثر التي اندلعت في بداية القرن السادس عشر، وعارضت البابا والكنيسة والفاتيكان. وقالت إن الإنسان ليس بحاجة إلى وساطة رجال الدين للتواصل مع خالقه، ولا بحاجة إليهم لتفسير العقيدة والنصوص المقدّسة، فالله تعالى زوّد الإنسان بالعقل، وهو قادر على القيام بها.
ليس هناك بديل عن النزعة الإنسانية إلّا النزعة الإنسانية
تعدّدت جوانب النزعة الإنسانية؛ كانت ثقافية، وروحية، وفنية، واقتصادية. رافقها تفسيرٌ جديد للدين، يختلف عما سبق من تفاسير متزمّتة، سادت العصور الوسطى. فالإنسان لم يعد مشدوداً إلى الوراء، وإنما أصبح مهتمّاً بحاضره وقضاياه. بمعنى آخر، لم يعد سَلَفيّاً ماضويّاً، ولم يعد اهتمامه متمحوراً حول مصيره بعد الموت، بقدر ما هو مهتمٌّ بمصيره على هذه الأرض، وكيفيّة تخفيف آلامه عن طريق التقدّم العلمي والطبّي والمعيشي.
يعتبر عصر النهضة، أوّلاً وقبل كل شيء، عصرَ الفرد. فلأوّل مرّة أصبح الفرد أهمّ من الجماعة، أيّاً كانت؛ إذ هو فردٌ بالقياس إليها. أَدرك أنّه إذا ابتدأ بالوجود، فسوف يستمرّ فرداً مهمّاً بحدّ ذاته، ليس كشخص مندمج في جماعة، لا خصوصية له، بل كفرد مُفرَد، لئلّا تسحقه الجماعة.
بعد نجاة الحضارة من الانفراط إثر حربين عالميتين، دعت بعض المدارس الفكرية، مثل مدرسة فرانكفورت، إلى إدانة الحداثة والتنوير، لأنّ العقل عجز عن منع الهمجية والمجازر الجماعية، وحروب متتالية، كادت أن تدع كوكبنا مسرحاً لعربدة الموت. بلغت الردّة عن الحداثة، لدى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، القول: “إنّ النزعة الإنسانية هي أثقل ميراث انحدر إلينا من القرن التاسع عشر، وقد حان أوان التخلّص منه”. اللافت أن هذا الطرح يجري داخل أوروبا ذاتها، موطن الفكر والفلسفة والتنوير والحريات.
بلغ التشكيك في النزعة الديمقراطية أنها اعتُبرت من اختراعات الحداثة، ولم تزد عن وهم ودجل، أو سرابٍ ليس إلّا. وكأنّ الديمقراطية أدّت إلى هذا المنعطف في التاريخ الحديث، لم تفعل شيئاً، وقفت مكتوفة اليدين. لكنْ، في الوقت نفسه، سيكون في إسقاطها إهمالٌ للشوط الهائل الذي قطعته البشرية من الهمجيّة إلى المدنيّة. الطريق إليها لم يكن معبّداً بالرياحين والورود؛ دفع الإنسان ثمنه حروباً أهليّة ودينيّة ومجازرَ دامت قروناً وشكّلت الجانب الأسود من التاريخ الإنساني. أفلحت البشرية في النهاية بتشييد حضارة، كانت على الدوام، وما زالت، مهدّدةً بالنكسات والارتدادات والتراجعات، تدلّ عليها الحروب والعنصريات والجشع، ما شوّه إنجازاتها ومآثرها.
إذا كان هناك درسٌ نتعلّمه، فهو: إذا كانت الديمقراطية وهماً، فالإنسان وهم. ليس هناك بديلٌ عن النزعة الإنسانية إلّا النزعة الإنسانية، ولا بديل عن العقل إلّا العقل، ولا الحضارة إلّا الحضارة. الإنسان مقياس كلّ شيء.
-
المصدر :
- العربي الجديد