حتى الآن يتحاشى العالم الاعتراف بأن ظاهرة الثورات على الطريقة المصرية والتونسية، مؤهلة لاجتياح المعمورة، من دون تمييز بين الدول الديموقراطية والدول غير الديموقراطية. الاعتقاد الساري هو أن التخفي على هذه الظاهرة، سيؤدي إلى انحسارها، لكن ليس قبل حصارها في المنطقة التي أطلقتها. غير أن الأمر يتطلب أيضاً الاستعداد لمواجهة احتمالاتها التي لم تعد مجهولة، فلدى الحكومات مهما كانت ديموقراطية مفاسدها، ولدى الشعوب مهما بلغت من رفاهية ما تحتج عليه. الوصفة باتت معروفة، التظاهر بأعداد كبيرة، على ألا يُكتفى بتظاهرة تنفض بعد ساعة أو ساعتين، بل التظاهر المفتوح إلى ما لا نهاية، وكأنه التظاهر للتظاهر، أو التظاهر كنوع من البطر التحرري.
خريطة الطريق مضمونة إلى ما درج وصفه بـ”الثورة”: اعتصامات، احتلال ساحات، لافتات وشعارات وهتافات، مطالب منخفضة، ثم غير منخفضة، ترتفع من يوم لآخر، يتعالى سقفها وتتجاوزه، ما يطالبون به اليوم، يرفضونه غداً… يرافقها التصدي لقوات الشرطة والاشتباك معها بالأيدي والأرجل، لن يكون الرد عليها بأكثر من القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي من دون جدوى، الهدف اسقاط الحكومة، وربما اسقاط النظام، حسب البلد، وحسب نوع الديموقراطية.
يعتقدون في الغرب، أنهم تجاوزوا زمن الثورات، لا سيما هذه التي تحاول تقليدها، وتنتقل بالعدوى من جسد مريض إلى جسد سليم. وهي بلاء لمجرد أنها مزعجة، وإن كانت الثورة فيما لو حطت في بلدانهم ستُختصر بإسقاط الحكومة، والتشهير بوزراء ونواب وأثرياء ورجال أعمال. أما في البلاد التي تدعي الديموقراطية، فلديها أسلوبها الخاص في ممارستها. ففي سورية يتحدثون عن ديموقراطية لا تشابه النوع الأوربي والأميركي؛ على أساس التفرد السوري، ولم يكن مجرد كلام يقال، فالديموقراطية السورية لها مخالب لم توفر شعبها منها، دفعت التظاهرات السلمية إلى التسلح، وحولت الثورة من وطنية إلى طائفية، ومن حرب شعبية إلى حرب أهلية. لم تعتمد في مكافحتها على الهراوات، ولا استعمال خراطيم المياه، أو الرصاص المطاطي، وإنما الأسلحة الفتاكة، استهلتها بقفزة مميتة، مباشرة إلى الرصاص الحي، فالدبابات، المدفعية، الطائرات، البراميل المتفجرة، القنابل، الصواريخ الباليستية… المثال السوري نموذج ناجح لوضع حد لحمّى الثورات، غير أنها لم تضع حداً لها، بل جعلتها بلا حدود.
دول العالم، تعرف مدى هشاشة حكوماتها، وأوضاعها المهددة بالفضائح على الدوام، المالية إن لم تكن التجسسية أو الجنسية، لكن انتقادات المعارضة والصحافة تؤمن فسحة أمان وتنفيس عن الناس، لا حاجة لاستعمال السلاح ولا أي عتاد حربي رغم توفره، ما دامت شعوبهم لا تهتم بهذا الضجيج، شهيتهم للسياحة، وتذوق الفنون أقوى، وأيضاً إلى التسوق والمزيد من الاستهلاك، غير ان الأمان ليس أميناً، والجرائم مشكلة قومية، والركود آفة الاستقرار، والتسوق بحاجة إلى مال، ووظيفة مضمونة، ما يجعل الحكومات تعيش تحت وطأة هاجس البطالة وانخفاض مستوى المعيشة، المهددة بشرور الثورة.
ومهما يكن، قدمت الحالة السورية تجربة رائدة، جديرة بالنظر، جرى فيها اعتبار القوة المفرطة من قبل الأنظمة أمراً مفروغاً منه، المبرر دفاعها عن الشعب ضد الارهاب، وحقها في الذود عن حكم مستقر، هو عامل الأمن والأمان للبلد. ربما كان الفساد الضارب في النظام السوري نقطة ضعف قوية، هل هناك دولة في العالم غير فاسدة؟ الفساد ثمن الاستقرار. ما يستدعي المساءلة والمحاسبة، استخدام الأسلحة حتى المحرمة دولياً في قمع الشعب!! لا أمان بلا مقابل، والقمع يتطلب القتل، ثم أن الأنظمة مجرمة بطبيعتها، فماذا لو كانت تدافع عن وجودها؟
أما الثورات، فحسابها عسير، لابد أن تكون عاقلة وحكيمة، نظيفة وبريئة. أنظمة الحكم لا تتغير لمجرد الرغبة، يجب أن تبرهن الثورة على أنها البديل الصالح.
-
المصدر :
- المدن