إذا أردنا التعليق على الأحداث اليومية في ارجاء الأرض السورية، بعدما تراجع الاهتمام بها إثر “عاصفة الحزم”، فلا يمكن تجاهل التقدم الذي أحرزته كتائب المعارضة المسلحة في بصرى الشام وادلب، وأيضاً ما تحدثه آلة حرب النظام والميليشيات المذهبية من فجائع على مدار الساعة، إذ لم تتوقف طوال السنوات الأربع الماضية عن العنف والتدمير، فالقتل بأصنافه المتعددة مورس على السوريين: العشوائي والمبرمج، شمل قنص المدنيين ولم يستثن الأطفال والنساء والكبار في السن، العقوبات جماعية، إضافة إلى حصارات “الركوع أو التجويع”، والتعذيب حتى الموت. هناك من الأهالي من دفنوا أبناءهم سراً خوفاً من الملاحقات، وصل الإجرام بأجهزة الأمن والشبيحة إلى نبش المقابر، وسرقة الجثث من المستشفيات، ليجري تشويهها ورميها على الحدود الفاصلة بين الأحياء المتجاورة والمختلفة طائفياً، إسهاماً في التخويف والدفع إلى مناوشات ثأرية. هذه حصيلة اعلان النظام الحرب على الشعب.

ليس هناك جريمة لم ترتكب في سورية، ارتكبت عن عمد وتصميم، لمجرد القيام بأعمال كان أغلبها في جوهره إنسانياً، وتعاضداً اجتماعياً؛ توصيل إعانات إغاثية للجرحى، إيواء منشقين، تقديم الطعام والدواء… مخالفات يعاقب عليها في أقبية أجهزة الأمن ومراكز الاعتقال، يقوم عليها بحقد وكفاءة زبانية الهمجية الجدد، أولاد وأحفاد زبانية مرتكبي مجازر حماه وتدمر وجسر الشغور في الثمانينات، يستنسخون جرائمهم منها على نحو مماثل. فالوحشية أيضاً، تورث مثل السلطة المغتصبة.

هذه المعلومات متوافرة ومتاحة للجميع، لكن هناك من ينكرها، ولا يرغبون في الاطلاع عليها، لئلا يعرفوا، المعرفة اتهام، يفضلون ألا يعلموا، ليقنعوا أنفسهم أن لا شيء يحدث. هذا ما اجترحه مسؤولو النظام من كبيرهم إلى صغيرهم: الانكار، بينما الإجرام يومي. يزعم رجال النظام ومؤيدوهم، أنهم منذ بداية الثورة يواجهون هجمة إرهابية تكفيرية، لئلا يؤرقوا ضمائرهم بالبراميل المتفجرة وراجمات الصواريخ والدبابات والطائرات والكيماوي، حسب ادعائهم، تقتل التكفيرين وتدمر البيئات الحاضنة.

هناك أيضاً المثقفون الذين يقفون على الحياد، لدواع إنسانية، فهم ليسوا مع النظام، لكنهم تخصصوا في انتقاد أداء فصائل المعارضة المسلحة والسياسية، وهو أمر محمود وضروري، حسب ادعائهم أيضاً لا يعلمون بما يقع في سورية، فلم يعرفوا بالمجازر، ولا بالكيماوي ولا ب 11000 سوري قتلوا تحت التعذيب. وإن كانوا غير راضين عما يجري من تجاوزات. يعللون الجرائم بأنها متبادلة… ثم إنها الحرب. ما يبيح لهم عدم الالتفات إلى الضحايا المدنيين الأبرياء، فهم مجهولون، كانوا في المجهول وذهبوا إلى المجهول، لم يمروا في هذا العالم، إلا ليسجلوا كضحايا مغمورين، لا أحلام لهم، ولم يرغبوا في الحياة، طريقهم إلى الموت محدد منذ خلقوا. أما أساليب موتهم فتدل إلى أنهم يستحقون هكذا مصير، لا بد اقترفوا جريمة ما، فيصبح مبرراً الإجهاز على شبان موثقة أيديهم بالضرب بالبوط العسكري المقدس.

يبدو الموت العادي تافهاً، ليس هذا وقته، ليس موتاً غير هذا الموت بالجملة، يستمد تميزه من الرصاص والقصف، وتفتت الأجساد في فضاءات الغبار، وانسحاقها تحت الركام، جثث لا ملامح لها، مشوهة ومحترقة، مغمسة بالوحل والدم. قتل تتجلى خفته وجبروته في سقوط برميل متفجر، لينكشف الدخان عن بشر مذعورين يتراكضون، وعشرات الجثث مبعثرة فوق الأرض، أو دفنت تحت الأرض… مناظر يومية يجري تعميمها، على أنها عاقبة كل من يفكر أو يثور طلباً للحرية، حتى لو كان بالمصادفة في المكان غير المناسب، بعد أن بات ليس هناك من مكان مناسب، وكل زمان هو الزمان الخطأ.

يؤول المثقفون الانسانيون هذه المشاهد على أنها قضية ميلودرامية تستثمر في الحرب لاستدرار العواطف والدموع. بينما الأزمة السورية تستعصي يوماً بعد يوم على الحلول السياسية والضغوط الاقتصادية والتهديدات الدولية، كلها جوفاء، طالما أن الحرب ما زالت مفتوحة على جميع أنواع الموت.

حالياً والجهود تبذل في محاولة لتوحيد كلمة العرب، لا تنسوا سورية.