لم يكن إعلان الرئيس الابن الحرب على السوريين في آذار ٢٠١١ خطوة غير محسوبة، كان وراءه الجيش العقائدي، وأجهزة المخابرات، وحزب وصولي، وطيف واسع متنوع من رجال الأعمال، وشبيحة يطمحون إلى شرعنة وجودهم وترسيخ سلطانهم بالوقوف إلى جانبه، بينما في أرجاء البلد طوائف ممزقة، كان تمزقها يحسب له لا عليه، نسيجها مخترق حتى العظم.

لم تعد الحرب بعدها إلا سلسلة من الانتصارات والهزائم المحدودة، تخللتها مجازر كانت ضرورية لتركيع الذين تجرؤوا وهتفوا بإسقاط النظام.

بمجرد ما لاحت الهزيمة في الأفق، تدخل حزب الله، والإيرانيون، فوقعت الحرب بين الأخذ والرد، وباتت حرب مواقع، لا نهاية لها، فكان تدخل بوتين الرئيس الروسي علانية، ووضعت أقدار السوريين بين أيدي روسيا، وأصبحت سورية تحت أربعة احتلالات؛ روسية، أمريكية، إيرانية، تركية.

بالعودة إلى بداية القرن الحالي، عندما جرى الاعتراف بسلطة الوريث الشاب برئاسة الجمهورية السورية، بدأت الدول الإقليمية العمل على تجاذبه، فانهالت عليه المساعدات والأعطيات، بلغت الذروة من إيران، الحليف المعتبر الذي لم يبخل عليه بالمال والاستشارات، كان قد ورث التحالف معه من أبيه، كان السند الأقوى له في الاستمرارية، في حين قدم شعار المقاومة غطاء عربياً شعبياً، كان على انسجام مع ادعاءات ايران حول تحرير القدس, مع الوقت فاق تحالفهما تحالف أبيه معهم.

ذهبت الشرعية القديمة مع الرئيس الأب الذي اعتاد على التعامل مع العرب والإيرانيين سواسية، يأخذ منهم الكثير ويعطيهم القليل، وكل شيء بحسابه.

أما الوريث فجدد التعاقد على أسس أخرى، كان يأخذ الكثير من العرب ولا يعطي شيئاً، وإذا أعطي فلا يبخل بالوعود، لماذا يعطي، ما دام أنهم يمنحونه بسخاء؟ لكنْ للصبر حدود، لا أحد يدفع من دون مقابل.

بينما أدركت إيران، منذ كان الأب، أن العائلة قررت توارث سورية، مثلما الملالي توارثوا إيران. وكان الوريث يعرف أنهم لن يتخلوا عنه، سيكونون السند الأقوى له في المنطقة، كانوا قد أقنعوه أن بقاءه من بقائهم.

ومثلما تدرب على الأخذ لا العطاء، تدرب أيضاً على تدبير المؤامرات، وضمناً الاغتيالات. كانت الأسلوب المجدي في إدارة الدولة، وإن تجلت أستاذيته بالدروس التعليمية، يقود البلاد من خلالها بإرشادات وتعليمات، تلقى على تلامذة ليس لهم سوى الطاعة.

وإذا كان الشعور بالنقص قد لازمه، فلأن دبلوماسيين ومحللين عرب وغربيين، وأيضاً رفاق مسيرة الرئيس الخالد، قارنوا بينه وبين أبيه، وكانت الكفة ترجح للراحل، وجرى الاعتقاد بأنه لن يستطيع الحفاظ على ما ورثه، بحيث أصبحت عقدة الأب كابوساً، يشعره بالتقصير. فالأب اكتسب سطوته من مجزرة حماة، فكان الابن بحاجة إلى مجزرة لا تقل عن حماة وعندما تهيأت له، لم يتوان عن تحقيق طموحاته، فتفوق الخلف على السلف، بحيث بدت حماة مجزرة مصغرة، وإن كانت نموذجية، عن المجزرة الشاملة التي عمت سورية.

لئلا نغمطه حقه من الصلابة، كان يقود البلاد خفية، أما الطريقة فبالبطش، إلى أن أصبح الرئيس الدموي المنشود، فاللطف الظاهر المبالغ به والمفتعل، لم يعد يخفي ذلك الاستهتار المطلق والجائر بحياة الناس. الخطأ الذي ارتكبه أنه منح نفسه قيمة من هذه البشاعة.

التدهور الذي بدأ بطيئا، أصبح سريعا مع استمرار الالة العسكرية بطحن البشر والحجر، وبلغت به الغطرسة أنه رفض القيام بإصلاحات واتهم المحتجين بالإرهاب، وتحت ذريعته تم تصنيع إرهابيين، واستقدامهم من الخارج، ما حول الادعاء إلى حقيقة واقعة، مازالت تستثمر حتى الآن.

كان واثقاً ليس من النصر فقط، بل ومن عملية التأديب التي ستروض الشعب على العبودية لمئة عام قادم، مع أنه كان واثقاً إنها للأبد، حسب مفهومه للأبد.

لم يكن خوض الحرب ممكناً، لولا أنه وضع مقدرات الوطن تحت تصرف أجهزته في القمع، وكان مبرمجاً، فإضافة إلى الجيش العقائدي، والتوسع في فروع الأمن وتزايد صلاحياتها وتوحشها, أعطى الضوء الأخضر لعصابات وميليشيات مذهبية مسلحة.

لم يكن هذا التطور اعتباطيا، كان مبكراً، مع إبعاد كل من يفكر بالتمرد عليه. مع الوقت لم تعد المخابرات تتورع عن ممارسة أساليب التعذيب المعروفة وغير المعروفة، أحياناً تؤدي إلى الموت، ثم أصبح عادياً.

بعد تسع سنوات حقق نصراً هشاً ومنقوصاً، تحيط به بطانة فاسدة، تستعد وفي جعبتها ما كسبته بالحرام لمغادرة بلد يعاني من الفقر والغلاء والجوع، بلد لم يعد على حافة الهاوية، كان في الكارثة، بينما الرئيس المنتصر، قد خطط لرحيل سريع، ومكان آمن، يستقبله مع عشرات المليارات المنهوبة.

هذا الموجز، سوف يكتب فيما بعد باستفاضة، رغم ظهور ما يزيد عن مئة كتاب، ومئات آلاف المقالات والتحليلات على مدار هذا العقد وما قبله، وسوف يجد المؤرخون في تاريخ هذه الحقبة، ما يشبه حقبة ستالين وهتلر وموسوليني من ناحية الفظاعات المرتكبة، فأنظمة الطغيان متشابهة، وجرائمها متماثلة، في القمع والقتل والتعذيب والاغتصاب والمجازر والاغتيالات، وتجارب الأسلحة الكيماوية والبيولوجية على البشر.

وإذا استغربنا هذا القدر من الموت والدمار، فلنتذكر أن الانتفاضة عمت سورية، ودامت الحرب السورية زمناً يقدر حتى الآن بسنوات حربين عالميتين، ولم تضع أوزارها بعد.

سوف يقف التاريخ حائراً أمام ما أصاب السوريين من ظلم المجتمع الدولي، فالنظام مارس تحت أنظار العالم من الجرائم، ما يعجز عن الوصف, وسوف يدين إيران الملالي وعميلها حزب الله، وروسيا بوتين، وأمريكا ترامب وأوباما… لائحة الاتهام ستكون طويلة.

وعلى أمل أن يكون ما حدث عبرة، وإن لم ينته، عسى أن يدرك السوريون أنهم في الوطن جسم واحد، لا شيع ولا طوائف، لا أكثرية ولا أقليات. وإذا كان الزمن الذي فرق بينهم يقدر ببضعة عقود، فالمستقبل امتحانهم القادم.