ما أصعب أن تُكتب رواية يُشرّح فيها جسد سوريا، لفهم ما حصل فيها خلال سنوات الحكم الأسدي، وما تعرضت له من انتهاكات عبثت بهويتها الوطنية، العمرانية، الثقافية، وأمعنت في التشويه لتاريخها وحضارتها، وكأنها لم تكن قبلهم، فتم التطاول على القانون وإخضاعه لمنطق الوساطات والاستثناءات والمحسوبيات، وتم إفساد التعليم الممنهج، وهذا ينسحب على كل شيء، الفن، الصحافة، الأدب، التجارة، الصناعة، إذلال المواطن بلقمة عيشه، الاعتقال التعسفي!
كل ذلك أدى إلى تهشيم الشخصية السورية، وقتل روحها المبدعة، أغلقت الأبواب بوجوه أصحاب الكفاءات العالية، وفتحت للجهلة واللصوص والانتهازيين، العسكرة فرضت على المدارس والجامعات، صدّرت أجيالاً تتباهى في عبوديتها، وتبذل الروح والدم فداء الرئيس، يرفعون صوره في المسيرات الإجبارية، يبصمون بالحبر والدم في كل استفتاء، تحولت الجمهورية السورية، لتصبح سوريا الأسد، حتى داخل السجون وفي المعتقلات لا حسيب ولا رقيب، إجبار السجناء على المشاركة في الاستفتاء، مكسورين أذلاء، والسياط تأكل من أجسادهم المسحوقة والسجانون يهتفون باسم قاتلهم الأكبر، حولوهم لأرقام، لينسوا أساميهم، حتى الرقم ٧٧ بصم بالدم، لكن الطبيب عدنان لم يفعل.
وما أصعب أن تكتب مقالاً عن هذه الرواية، التي تناولت معظم ما ذكر من جوانب مختلفة بشكل أو بآخر، وبعدها تتساءل، لماذا اختار الكاتب هذا العنوان (السوريون الأعداء) (السُّوريون، الشَّعب السوري أو الأمَّة السُّوريَّة، هم، بالمعنى المعاصر للكلمة، مواطنو الجمهورية السورية)، إذاً من هم الأعداء!؟
يغوص فواز حداد عميقا في فلسفة العداء التي تصنع مجرزة بهذا الحجم:
“شهر من القتل المتواصل في حماة، يحتاج إلى ضغائن هائلة، من أين جاؤوا بها !؟)، سؤال جوهري كاشف يسأله غالب الشاب العلوي، المعارض الملاحق من فرع أمن المنطقة في مدينته، موجهاً كلامه لصديق طفولته النقيب سليمان، ليكون الرد: (أنا قتلت بلا أحقاد، لا أحتاج إلى دافع. أنا مع الرئيس”.
وهنا يطرح السؤال: هل كانت مجزرة حماة ضرورية لتأبيد الحكم!؟
سليمان الذي كان منبوذاً من أهل قريته، بقي منبوذاً من أهله، لم ينسوا فعلته يوم كان طالباً في البكالوريا، أخبر عن عنوان خاله الملاحق، لمن سيصبح رئيس البلاد، قبيل إعلانه الحركة التصحيحية، مقابل مساعدته ليصبح طالباً في كلية الهندسة بعلاماته القليلة. هذا الفاشل في الدراسة بعد سنوات أصبح نقيباً، ثم مقرباً من الرئيس مع صلاحيات مطلقة، ليختار العمل الذي يريده في القصر، أطلق الرئيس عليه لقب المهندس، ليكون أداة يحركها كيفما يشاء، من خلال الإيحاء له بأفعال تناسب الطرفين.
تغص الرواية بالشخصيات الثانوية المدهشة، ومنها شخصية الشيخ العلوي حامد الخائف على الطائفة من الانزلاق لما لا تحمد عقباه، (المجانين هنا يأملون بالانتقام من السنة، يعتقدون أنهم يحللون قتل العلويين، هذا من مآثر الجيش في حماة، وكل هذا يهون إزاء العبث في الدين)، مقابل حامد هناك وجه آخر مغاير الشيخ هاني، (الذي أسبغ على شخصية الرئيس صفات فيها إجلال وعظمة تهيئه، ليكون إلهاً بديلاً على الأرض، ليستفيد من هذه الفكرة المهندس، من خلال الصور الكبيرة، الأصنام التي انتشرت في كل مكان، أينما اتجه أهلها يظهر لهم كواقع صارم لا مهرب منه، سيزداد تغولاً مع الأيام، ليكون متواجداً حتى في منامهم، وليعمم هذا الطغيان على كل سوريا، أينما اتجهت ستجده وستراه وتسمع الأغاني عنه.
هناك شخصية الرائد السني مروان، الذي تمنى لو كان بإمكانه تغيير مكان ميلاده، ليكون علوياً، هذا الامتياز سيختصر عليه الكثير من الجهود الإجرامية المبذولة بشكل مضاعف، ليثبت مكانته ضمن هذه المنظومة المخابراتية التي تحكم البلد فعلياً (الدولة العميقة). هوسه بالسلطة جعله يبالغ أكثر من غيره في القتل والتعذيب، وفي كل مهمة توكل إليه، كل ذلك لم يمنحه ما أراد، قتلوه في وضح النهار أمام عيون حبيبته التي تطل من النافذة لتراقب موته، راكعاً تحت أقدامهم الضخمة.
لقد ترك الكاتب للشخصيات مطلق الحرية للتعبير عن نفسها، لم يشيطن ولم يقدس، أفرد لهم فصولاً، ليعبروا عن عوالمهم الداخلية، عن بشاعاتهم ونقاط ضعفهم، وخيباتهم وقهرهم، بعضهم كانوا بشراً وبعضهم حاولوا التظاهر بذلك.
لن أدع الرواية تورطني فيها، أريد أن أخرج منها قليلاً، لأفهم لماذا احتاج النقيب سليمان لارتكاب مجزرته الصغيرة؟
يقول إنه زمن العلويين، لماذا لا يكون زماني أيضاً، ما المشكلة إذا اكتشف نفسه مع القتل، جرب وقتل أسرة مؤلفة من جد وزوجة ابنه وأطفالها، بعد إرسال الأب إلى حقل الرمي، ليعدم بحجة أنه قبض على طبيب متورط في علاج الجرحى من الملاحقين، ما كانت حاجته لفعل ذلك، وهو ليس مطلوباً منه، وليس من اختصاصه، إنه العبث، قتل هذه العائلة، هو فعل مجاني، لا يقدم ولا يؤخر! هذا النظام خلق بيئة مثالية، لتنمو فيه هذه النماذج المريضة، التي تكره حتى ذاتها، لاستباحة كل المحرمات، هو من فتح شهيته على القتل، من باب التجريب، كما قال قتل بلا أحقاد.
للكاتب روايته، بعد قراءتها ستصبح روايتي، لن أجعل هذا المسخ سليمان هو الشخصية الرئيسية فيها، ليظن أنه هو محرك الأحداث، يلتقط همهمات الرئيس ويحولها لكلمات، ثم لمهام رئاسية، وهو لا يعلم أنه مجرد برغي صغير في الكرسي الذي يجلس عليه الرئيس، ليس هناك من هو مقرب من الرئيس، حتى من ورثه في الحكم، الأبد كان له وحده، موقع هذا البرغي من الكرسي جعله بمكانة القاسم المشترك بين معظم شخصيات الرواية.
بطل روايتي هو الطبيب عدنان، هذه الشخصية السورية بامتياز في رقيها ونبلها وأخلاقها، التي جعلت المساعد ضرغام يحاول مساعدته على النجاة من الإعدام في حقل الرمي لمعروف، صنعه معه عندما زاره في عيادته وعالج أطفاله، وقدم له المساعدة، لم ينسَ هذا المساعد الذي استيقظ فيه الإنسان في مكان، يغيب عنه كل ماله علاقة بالإنسانية، محاولاً الوفاء بدين له في رقبته، رد المساعدة بمثلها.
كل العذابات التي عاشها، أوصلته إلى حافة الجنون، لكنها لم تستطع أن تنال من جوهر روحه ومعدنه، لم تجعله ينجرف للانتقام من الذي حوّل حياته لجحيم، وإن فكر فيه وخطط له، لم يقم به، كان يناضل ضد نفسه، كي لا تحوله مأساته لقاتل. هذا التفوق الأخلاقي، جعل سليمان في حالة ذهول؛ لأنه برغي في كرسي الرئاسة، لم يتأثر، ولم يتعظ، قدم اقتراحات لخالد النسخة المحدثة منه في القصر، أن لا وسيلة لقمع المظاهرات في درعا غير العنف، وذهب إلى درعا ليشارك بقمع المظاهرات بالقتل، التعفف عن القتل، هو من شيم الكبار، وهو لم يكن يوماً منهم.
عدنان في حالته الفصامية تعاون مع شخصية الرقم ٧٧، تعايش معها وبقي إنساناً لا يؤذي نملة.
طوال الوقت، كنت أشعر بالقلق على هذه الشخصية، كنت خائفة أن يضحي فيها الكاتب، فيسقط عدنان جثة هامدة بعد جولة تعذيب وحشية، لا تصدر عن بشر، وإنما عن براغٍ في آلة قتل جهنمية، لا تنتمي لأي نوع من الكائنات الحية، حتى الوحوش ستشعر بالمهانة، إن علمت أن الإنسان يطلق عليهم صفاتها.
ملاحقة مصير الطبيب عدنان، أصبح هاجساً لدي، خلال عملية القراءة، كل هذه القسوة التي فيها والصعوبة التي تجعل القراءة عملية شاقة، لم تدفعني للتوقف عن القراءة، كما أفعل عادة، عندما يتوجب علي الدخول لعوالم السجون والمعتقلات، لطالما هربت من قراءة رواية القوقعة، ولم أفعل حتى لعدم قدرتي على التحمل من قراءة وصف مشاهد التعذيب.
هنا في رواية فواز حداد (الأخوة الأعداء)، وجدت نفسي تائهة في ممرات السجن المعتمة الرطبة التي لا تعرف الشمس طريقاً إليها، أشم الروائح الكريهة لأصل للمهجع، لا أستعجل القراءة، أعيد الكلمات، أرددها وكأنني أريد حفظها، وكأنه مطلوب مني أن أكون شاهدة على ما جرى ويجري في هذه الأمكنة التي تزاحم الجحيم على صورته المتخيلة عبر العصور، أسمع أنفاس من عذبوا، أنينهم، حشرجات الموت في صدورهم، وعندما أعثر على الطبيب عدنان، أو حتى نصفه الآخر الرقم 77، أطمئن وأنهض مبتعدة عن اللابتوب، وأخرج إلى الشرفة الصغيرة، ألمس نباتاتي لأتنفس مثلها، بعدها أنخرط في حالة بكاء أقرب للانهيار. يا الله، إنها ليست مجرد رواية! إنها قصة حياة السوريين مازالت مستمرة حتى اليوم، تلك القبور الرطبة التي صممت للأحياء، حتى يكون أكبر أحلامهم الموت العادي والدفن في قبور جافة في وسط صحراء، حتى لو كانت رمالها حارقة.
الحمد لله، مازال الطبيب حياً، يساعده على البقاء الرقم ٧٧، هو من يحتمل التعذيب بدون أدنى اعتراض، ليدع الطبيب يذهب ليطمئن على عائلته، لا شك أنهم على قلق، كأن الرياح تحتهم وفوقهم، تحيطهم من كل اتجاه.
تتداخل في رأسي الصور والعبارات القصيرة شديدة الكثافة، ليعقبها شرح طويل يغوص عميقاً في دواخل النفس البشرية، تناقضاتها وصراعاتها، الرهيبة، أتنقل بين الأمكنة، بين الشخصيات التي تقاطعت مصائرها، حتى اندلاع الثورة السورية، وعيني على الطبيب، وعندما أدركت أنه مازال حياً، بعد انتهاء الرواية تنفست الصعداء.
لا يدفعك الكاتب الرائع (فواز حداد) لكره شخصية، أو التعاطف معها، يدعوك لتتعرف إليها، بعضها لها وجوه متعددة، تبدو متناقضة أو منسجمة، بناء الشخصية درامياً عامل أساسي في بناء الرواية عنده، مهما صغرت أو كبرت مساحتها، لابد لمرورها أن يترك أثراً عندك، لا تنساها، سواء أحببتها أو كرهتها، قد تتبدل بمكان آخر، فتراها مختلفة ليست ذات بعد واحد، لها مفرداتها ولغتها الخاصة. الكاتب هنا لا يؤلف، إنه يوثق الحياة في سورية بدرجة عالية من التكثيف، يمكنك أن تقرأ الرأي ونقيضه، وهذا سر من أسرار براعة الحوار فيها، الحوار بين النقيب سليمان والرائد مروان عن الله، والأديان والإيمان مثلاً، الملحمة السورية كل هذه التفاصيل وغيرها تجعل رؤيتك للأحداث بانورامية، لتراها من زوايا متعددة.
كثيرة هي الحوارات التي دارت عن الله في هذه الرواية، أجملها بالنسبة لي هذا الحوار البسيط العميق السلس بمفرداته العادية، بين حسان الذاهب إلى الإعدام بقرار منه، بدلاً من صديقه أسامة، وبين الطبيب عدنان العالق بين شخصيتين هو والرقم ٧٧.
ماذا لو لم يكن هناك رب؟
يسأل حسان
ستجده، أو شيئاً آخر
ماذا يكون؟
إن لم يكن الله فربما غيره.
هل ينصفني؟
لا تقل لي إنك غير مؤمن
إيماني لا يسعفني.
لم ينصفك في الدنيا، سينصفك في الآخرة.
ما الذي فعلته؟
لا تسألني.
أدار حسان ظهره، وانضم إلى رتل المحكومين، وترك الجواب معلقاً.
لامست هذه المحادثة شغاف قلبي، وروحي وبكيت حزناً على حسان هذه الشخصية الدرامية الساحرة، حجزت مكاناً لها في ذاكرتي.
-
المصدر :
- العربي القديم