لم تعد هناك دول آمنة، حتى المجتمعات التي كانت مزدهرة، باتت الأكثر عرضة للتهديد بخطر العدوى. أصبحنا ندرك عيانياً أن العالم لم يعد كبيراً، أصبح صغيراً، فالفيروس وصل إلى أبواب بيوتنا جميعاً دونما تمييز بيننا. بعدما استطاع خلال أسابيع قليلة التسلل إلى بلدان العالم، معلناً الحرب عليها.

وإذا كان العالم بالمقابل، وإن تأخر، قد أعلن الحرب ضد عدو خفي، “لامرئي” وإن كان مرئياً في المختبرات، شواهد ضحاياه في المستشفيات والبيوت، نقرأ عنها في وسائل الإعلام أخباراً لا تبشّر بخير عن وفاة المئات من كبار السن من دون أي نفع للعلاج، تركوا لمصائرهم المميتة من دون رعاية. هذا في دول كانت تزعم أن التأمين الصحي يشمل الجميع، لكن ها هي تستثني المسنين وتتخلى عنهم لئلا يشكلوا عبئاً على عجلة الاقتصاد!

لا دواء حالياً، الاعتقاد ينحو إلى أن العزلة ستتغلب على الفيروس وتمنع انتشاره، وهو حل انتهجته كل دولة على حدة، لا على مستوى تفاهم دولي، مع أن القضاء عليه، لا يكمن في التنافس بينها، بل في التعاون ضده، وطالما يهاجم البشرية جمعاء، فلا نجاة منه إلا بالتعاضد والتكافل، لا بصراع وصل إلى حد قرصنة شحنات الأدوية والكمامات ومصادرتها، أو استغلال الفيروس لأجندات داخلية، كما فعل رئيس المجر بالاستيلاء على سلطة غير محدودة، وقيام تايلاند وكمبوديا بقمع حرية التعبير مع انتشار الفيروس. بينما كانت الجائحة تثبت أن البشرية تموت معاً أو تنجو معاً. هذا قانون لم يعد يمكن تجاهله؛ العولمة تشمل الحياة والموت.

” هاهي الجائحة تثبت أن البشرية تموت معاً أو تنجو معاً”

الأسلوب الذي أثبت نجاعته، ريثما تنجح مراكز الأبحاث في اكتشاف علاج له، كان في الحجر الصحي ومعاقبة من لا يتقيّد به، كما فعلت الحكومة الصينية من خلال استعمال وسائل لمتابعة سلامة تنفيذه من السكان، وهو أمر بات سهلاً، فللمرة الأولى في التاريخ البشري، أمكن استخدام التكنولوجيا لمراقبة كل فرد على مدار الساعة، من خلال الهواتف المحمولة، واستخدام مئات ملايين الكاميرات التي تميّز معالم الوجوه، وإلزام الناس بمعاينة درجة حرارة أجسادهم، والإبلاغ عن ظرفهم الصحي. تمكنت السلطات الصينية ليس فقط من التحقق سريعاً من هوية حملة الفيروس المحتملين، بل من متابعة تحركاتهم وتحديد هوية أي شخص تواصلوا معه. فحققت الصين حتى الآن النجاح في احتواء كورونا.

يحيلنا هذا النجاح إلى بلدنا الصغير: سورية في عامها العاشر للحرب، مع دخول “كورونا” إليها، ما اضطر السلطة إلى الاعتراف بعدة إصابات، وفرضت على الأهالي الامتثال للعزل في بلد يعاني من انهيار النظام الصحي، لم توفر فيه الآلة العسكرية قصف المستشفيات والمستوصفات لا سيما في المناطق التي كانت محرّرة، عدا عن قتل الأطباء في معتقلاتها، أو وهم يمارسون عملهم، ودفعهم إلى الهجرة.

طبعا يستطيع النظام السوري تطبيق برنامج للحجر الصحي أشد ضراوة وإحكاماً من الصين، وبوسائل مراقبة لا علاقة لها بالعلم. لن يحتاج إلى التكنولوجيا، بإصدار أوامر حازمة بعدم الخروج من المنازل وعدم الإطلال من النوافذ والشرفات، يسهر على تنفيذ هذا الإجراء نشر الجيش والمليشيات والشبيحة في الشوارع، وإطلاق الرصاص على كل من يتجرأ على مخالفة هذه التعليمات.

” إنقاذ سورية من وباء “كورونا” لا يعني تجديد حياة النظام”

نحن لا نتكلم عن فانتازيا مرعبة قد لا تحدث، لو صدقت أخبار كوريا الشمالية في الإجهاز على أي مصاب بكورونا، على أنها مؤامرة من نظام رأسمالي معاد، فلا نستبعد تعميم هذه الوقاية في الدول الشمولية.

يستطيع النظام السوري إصدار ما يحلو له من قوانين بشأن مواجهة الفيروس، ولن يجد صعوبة في تقيّد الشعب بها، لكن هل بوسعه منع الصديق الإيراني من الدخول والخروج إلى سورية متى شاء، أو إغلاق الحدود في وجهه، وعدم السماح لطائراته بالهبوط في المطارات، أو تدفق الذخائر والمستشارين إليه، مع أن نظام الملالي، يغلق حدوده في وجه من يشاء، ويسمح ويمنع حسبما يمليه عليه أمنه ومصالحه؟ طبعاً لا، ما دام أنه يفهم الأمن على أنه أمنه وحده، وأن بقاءه أهم من بقاء الشعب نفسه.

في هذا الوقت، ومن ناحية المبدأ، تكتسب الدعوة إلى رفع الحصار عن سورية وإيقاف العقوبات وإلغائها، أهمية في طرحها بالأمم المتحدة، مهما كانت الجهة الداعية إليها، والأجدى مع وقف إطلاق نار شامل ونهائي تمهيداً لحل سياسي. إن الموافقة عليها تفيد في عدم تسييس محاربة الوباء، والسماح بتزويده بالمعدات واللوازم الطبية، والأدوية اللازمة لعلاج المرضى. ما يعيدنا إلى المؤيدين لجدوى العقوبات، فإذا كان الحديث يدور حول الأسلحة الذكية، فالأولى أن تتمتع العقوبات بحد أدنى من الذكاء ولا ترتد على الناس الذين تريد تخليصهم من استبداد حكامهم. إن إنقاذ سورية من وباء “كورونا” لا يعني تجديد حياة النظام ولا إعطاءه مهلة أخرى، وإنما إنقاذ الشعب السوري من المعاناة، ولسنا من السذاجة بحيث نأمل تغيير سلوكه، فنظام كهذا لا “يتغيّر” إلا نحو الأسوأ.

إن رفع العقوبات لا يجدد حياته طالما أنها لم تجدِ في إيقاف جرائمه، ما يوجب التمييز بين معاقبة السلطة المجرمة ومعاقبة الشعب. وفي نظرة تواكب الجائحة، لا تزيد طبيعة النظام عن “كورونا” محلية تقتل السوريين بلا شفقة ولا رحمة في سبيل البقاء على عرش الخلود، وما هو إلا جحر مرض الدكتاتورية الفتاك.

لن نبالغ ونأمل، في العالم بعد “كورونا” أن يختلف عما قبله، ولا أن ينهار نظام عالمي وينهض آخر أكثر عدالة، لكننا نطمح في أن يحدث فارقاً ما، قد يصيب السوريين نصيب منه.