بوسع النقد الصحافي أن يجد في أكثر الكتب رداءةً ما تُمتدح عليه، فالكتاب الرديء ليس خالياً من بعض التمويه على عيوبه. كذلك بوسع النقد أن يجد في أكثر الكتب روعةً ما تُنتقد عليه، فالكتاب الرائع ليس مثالياً، ولا ينحو كاتبُه أن يكون كتاباً عصيّاً على النقد. الكُتّاب الجيّدون يبذلون جهدهم وكفى.

المعنى، أنّ على من يتصدّى للنقد أن يحوز من الثقافة ما يؤهّله لإعطاء الكتاب حقّه من المراجَعة، من دون مجاملات ولا ضغائن، وهو ما تشكو منه مراجَعات الكتب… أنّها منحازة للصداقات والمعارف، أو العداوات، لذلك ثمّة حاجة إلى بعض النزاهة التي لا تُوفّرها الثقافة، إن لم تكن مترافقة بالأمانة، فالكتاب ليس كأيّ منتَج ينبغي ترويجه، أو العمل على أن يكون بضاعة كاسدة.

أغلب القرّاء يستقبلون رأي الناقد ببراءة، يعتقدون بناءً عليه، أنّ ما يقرأونه عن الكتاب يُعدّ تقييماً مضموناً، وهو الأكثر حصولاً مع الروايات، ليس لتميّزها، بل بسبب شبكة علاقات الكاتب. لذلك كان في الإشارة إلى روايات الجوائز التي تحصل على تزكية من لجنة التحكيم ضمانةً موثوقة، لأنها تضمّ كتّاباً ونقّاداً. للأسف، لا تخلو من خديعة، فما جرى اختياره يأخذ بالاعتبار توازنات لا علاقة لها بالأدب، ولا تَعترف به، إلّا من ناحية حيازة الكتاب على لغة وأحداث وشخصيات. لكنّ الرواية ليست هذا فقط. يجب أن تمتاز بشيء ما فريد من ناحية الأسلوب أو الفكرة بالمقارنة مع غيرها، لكنّ كثيراً ما لوحظ أنّ من بين الروايات المستبعَدة ما يمتلك تميّزاً لافتاً. لكن بوسع اللجنة إثبات أنّ هذا التميّز بالذات يمثّل سقطةً لافتة.

على من يتصدّى للنقد أن يحوز ما يؤهّله لإعطاء الكتاب حقّه

ليس هذا اتّهاماً للجان التحكيم العربية، والنتائجُ لا تعبّر عن الرداءة خاصّةً في العقد الأخير، وإنما عن التوازنات التي تتحكّم في نظرتهم السياسية إلى ما يدور في بلدان المنطقة التي كانت الثورات والحروب تجوس فيها. فمثلاً، بالعودة إلى سورية، امتنع المحكّمون عن استقبال الروايات التي تعكس ما يجري فيها من جرّاء ثورة امتدّت لا أقلّ من عامَين، ثم تخلّلتها حربٌ طاحنة امتدّت نحو عشر سنوات ولم تنته، خلّفت لا أقلّ من ثمانية ملايين من الضحايا والنازحين واللاجئين، فانعكست معاناة السوريين على كتاباتهم، أدّت إلى صدور مئات الروايات.

اعتبرت لجان تحكيم الجوائز أنّ الوضع السوري هو صراع بين أطراف، ولا يريدون الانحياز إلى طرف دون آخر، أي أنهم كمثقّفين اختاروا ألّا ينظروا إلى الروايات إلّا من خلال الوضع السياسي السوري، فكان حسب تقديراتهم أطرافاً تتقاتل، أمّا لماذا؟ وعلى ماذا؟ فهذا لا يهم، ولا يعنيهم. إنّهم مثقَّفون محايدون، لكن الثقافة لا تقول بهذا، خاصةً أنّ مواقفهم تمليها السياسة، وعلى أساسها جرى استبعاد هذه الروايات بدعوى أنها سياسية! بناءً على هذا، ليتنا لا نسمع هذه الادعاءات القائلة: لا علاقة للأدب بالسياسة، إذ لا يجوز للجان اتخاذ موقف سياسي في النظر إلى الأدب، فإذا كانت الحكومات اتخذته في الخفاء، لكن ويا للسخرية، اقتفاه المثقّفون بالعلن، ما يدلّ على التهذيب الذي يتمتعّون به بعدم إحداث شوشرة.

مع الوقت ظهر الحرج في منح الجوائز، فالحرب لو بشّرت بالانتهاء، لكن من دون بوادر، الأطراف المتنازعة تزايدت وأُضيفت إليها دول كبرى وصغرى، بينما اللجان رغم أنها حافظت على حيادها، قرّرت ألّا تحرم السوريين حصّتهم من الجوائز، فاختاروا للأمان من كان على شاكلتهم في مواقفهم، أي أنهم ليسوا مع هذا ولا ذاك، وهُم الذين يوصفون بالرماديّين، من الأنواع الذين يستثمرون في الضحايا، وكأنهم سقطوا قتلى من تلقائهم، لا فاعل ولا مجرم ولا مسؤول، بحجة أنّ الأدب ليس لجنة تحقيق، بل معرض رثاء، ما مثل الفن الطليق من قيود الانحياز لأيّ طرف، بإغفال العدالة والحقيقة، مع أنّ الرواية الأجدر بها، فالمشهدية الروائية من خصائصها ألّا تحجب شيئاً، وما تقصير النقد إلّا لاقتصاره على الدعاية، والتهليل للجوائز مهما كانت النتائج، لذلك ما صدر عنه لا يزيد عن ادعاءات.

بالعودة إلى مراجعة الكتب الرديئة، رغم أنّها لا تُخفي براعة النقد في تحويل الرديء إلى جيّد، لكنها تغفل ميزة مهمّة، وهي أنه صادق، وبالاستعانة بأوسكار وايلد الذي كان محقّاً في أغلب تعليقاته على النساء وتقاليد العصر الفيكتوري، فقد كان رأيه: “إنّ الشعر الرديء صادق”، ويؤكّد على كلامه بالقول إنّه لو كانت لديه القدرة لأمَرَ بأن تُحفر هذه الكلمات على بوابة كلّ جامعة، بحيث يُتاح لكلّ طالب تأمّلها. فهذا الشعر الرديء بلغ مرتبة الصدق في التعبير عن الرداءة، فلا نستهين في هذا الاعتراف، فلماذا يأتي النقد وينفي عنه حقيقته؟

عموماً وللاطمئنان، فلنستعِن أيضاً بالقارئ النبيه، يستطيع أن يُصدر حكماً سيّئاً أو جيّداً ليس على الكتاب، بل وعلى الناقد أيضاً.