لن نزعم أنّ الأدب يُغيّر العالم، بالتالي لن نزعم، أيضاً، أنّ الأدب يُغيّرنا نحن البشر، مع أنه يطمح إلى ذلك، لكنّها أضغاث أحلام. فالشرّ اللصيق بنا، ومثله الخير، ما انفكّا في نزاع دائم، أو بالأحرى أبدي. ومثلما الشرّ مترسّخ في البشر، لكنْ بلا ريب أنّ الخير قد حقّقَ إنجازاتٍ يستحيل نكرانُها وليس بفعل الأدب، وإنْ كان سجلّاً لهذا النزاع، فقد فكّكه وحاول تفسيره، وكان غالباً إلى جانب الخير، وداعية له، ضمناً وجَهراً.
لنقُل إنّ الأدب يمنحنا الإحساس بالقابلية على التغيير، أو إمكانية إجراء متغيّرات. إذا كان فلا بدّ من أن ترافقها نيّات متحلّلة من التزمّت، بمحاولة كَسْر المتعارف عليه، كالتحرّش بالثوابت إنْ لم نقُل إطاحتها، لا أدب من دون خلخلة للمستقرّ، فدوام الاستقرار أحياناً على حساب البشر.
تلك القابلية التي ورد ذكرُها، لا تزيد على الشعور بالتفاؤل، لكنّ التفاؤل مثل التشاؤم، لا يزيدان على كونهما خدعة، وفي أفضل الأحوال تأجيل المطلوب، وتأخير العاجل. هذا يختلف تماماً عن مبادرة السُّلطة بإجراء متغيّرات سريعة من فوق؛ بقانون أو مرسوم، عدا ذلك لا تغيير، ولو بقيام ثورة. فماذا بمقدور الأدب فعلُه مقارنةً بالثورة؟ لذلك، يصبح التساؤل وارداً: لماذا تخاف الحكومات من الأدب، منذ القِدم وحتى الآن؛ تُراقبُه وتُصادره وتمنعه وتُحرقه، مع أنّه لا يستطيع أن يدفع الناس أحياناً إلى الكلام، أو القيام بمظاهرة وربّما اعتصام، فما بالُنا بتغيير نظام حُكم؟
في الواقع، بالنظر إلى الإجراءات المشدَّدة ضدّ الأدب؛ فالحكومات ليست على خطأ ولا على ضلال، وليست قصيرة النظر، إنها تنظر إلى الأبعد، لا القريب، تخشى من أيِّ تغيير مهما كانت ضرورته. وإذا كانت تعمل حساباً للمستقبل، فلأنّها لا تريد العَيش تحت تهديد الكُتب، بالرغم من أنّ تأثيرها ضئيل، بحيث لا يعدو كونه مُسلّياً ومُفيداً مع المتعة، ولو دسّ قليلاً من السمّ في الدسم. أمّا إذا تطاول على الواقع، ولو بالخيال، فيجب أخذ الحذر منه، لذلك جرى اختراع الرقابة، ليس من أجل الحفاظ على الأخلاق والدين، إنّها سياسية بالدرجة الأُولى، وإذا تطرّقت إليهما، فليس عن براءة، إنما لئلّا يجري تسييسُهما.
ماذا بمقدور الأدب فعلُه مقارنةً بالثورة؟
إنّ الأدب، مهما بلغ من التواضُع، يُسهم دون مِراء في تغيير نظرتنا إلى الحياة، ويمدّنا بالمعرفة عن أنفسنا والآخر، والتفكير بالخروج من الدائرة الضيّقة لاهتماماتنا اليومية إلى دائرة أوسع؛ ما يقودنا، ربّما خفية ومن غير أن نشعر، إلى الكثير من الحقائق، إذ يحفر فينا بشكلٍ بطيء وعميق، وعبر زمن طويل منذ بدايات قراءاتنا قصص الأطفال واليافعين إلى البالغين والراشدين. يتحلّل في داخلنا، وتتشرّبه أرواحنا، ويظهر بشكلٍ آخر، مثل علامة أو منارة أو شعلة، حتى إنّنا لا نتعرّف فيها إلى ما قرأناه.
سواء أكان الأدب يُجدي أم لا يُجدي، فليس بِوُسعه، أن يدعَنا بلا سلوى، ولا بِوُسعنا الاستخفاف به، ولن ندّعي أنه يُنقذنا إلّا بقدر ما يُواسينا، ويجعلنا نُحسّ بأنّنا لسنا وحيدين في هذا العالَم، يُشاطرنا خلواتنا، ويبثُّ الأمل فينا، ربما كان كاذباً أو وهماً؛ لكنْ، لن نُخطئ الشعور على الأقلّ بأنّ هناك كاتباً في بلد آخر، لا نتكلّم لغته، وربّما كان في أقاصي الأرض، يُشاطرنا الظلام والنور في عالم ضعيف الإنارة.
يُفاجئنا الأدب، إذ يجعلنا نؤمن بأشياء لا نؤمن بها، أو لا نجد بأساً في الشكّ، ولو ذَهب بنا إلى الإلحاد، أو نستعيد إيماننا بالدِّين، أو بعالم روحي، أو تذكّر ما نسيناه في غمرة متاعبنا، والأغلب الاعتقاد بالحبّ على أنّه حقيقة. وقد تُداعبنا فكرة مارقةٌ ربما تتحقّق إذا عملنا عليها، وإدانة الخيانة واستنكارها، أو التشبُّث بالوطن ليس على أنه قطعة أرض فقط، بل قطعة منّا. وبمعنى ما، لا يجعل الأدب الحياة مُحتمَلةً فقط، بل يدفعُنا إليها، ويقول لنا كم هي شائقة، رغم أنها شاقّة، ويُزيّن لنا المغامرة، ويحبّذ الجنون، ويمقت التفاهة.
فكرة أنّ الكتاب يفتح الآفاق، فكرةٌ صحيحة، وما يزرعه، قد يُزهر مع الوقت، ولقد أزهر مراراً. هذا أسلوبه في التغيير.
-
المصدر :
- العربي الجديد