في العقود الأخيرة، اعتاد الكُتّاب، خصوصاً كُتّاب الرواية، ولا أستثني نفسي منهم، التعليقَ حول كتاباتهم، بأنهم لا يقصدون تغيير العالَم، ما يعني نفيَ الاتّهام عنهم حول هذا الطُّموح المشكوك فيه، لعدم قدرة الأدب على القيام بما هو عاجز عنه، فالأدب لا يُغيّر، وليس من باب التواضع، وإنما من باب الأمر الواقع، التغيير لا يتمّ إلّا بالقوّة، وهو ليس شأن الأدب، إنّه شأن الثورات والانقلابات والبرلمانات، لم يكن هذا التصريح إلّا من عواقب “فوبيا” الأيديولوجيات، ففي الزمن الشيوعي، كان الكاتب يفخر بأنه يريد تغيير الواقع بالقلم، مثلما العُمّال ينشدون تغييره بالمطارق الفولاذية.
يُمكن القول، إنّ الأدباء كانوا يُخادعون أنفسهم، فالروايات لم تكُن تخلو من هذا الهدف، علناً أو مُضمَراً، لكنّهم تنازلوا عن هذه المهمّة، وتعلّلوا بدلاً عنها، بأنّ الأدب يطرح الأسئلة، وليس مسؤولاً بالبحث عن إجابات عنها. لماذا؟ لأنهم في أوروبا، ابتدعوا هذه القصة، وأعفَوا أنفسهم من التغيير، الحكومات أخذته على عاتقها، وتركت للأدباء التفكير في الأسئلة، كما تركت الإجابات معلّقة وتنطّعت لمهمّات اقتصادية غايتُها تحسين ظروف المعيشة وغيرها، وكان الحصاد استعادة حروب بعيدة عن أوروبا، وغالباً المحافظة على استمراريتها بوسائل أُخرى. في بلادنا على سبيل المثال، كانوا يعملون على التسلُّل للعثور على موطئ قدم في مستعمراتهم القديمة، وكانت أشبه بحرب سرّية تُخاض من بعيد، كنّا ندعوها بالمؤامرة، أدواتُها جاهزة، فكلّفوا أنفسهم بحماية انقلابيّين يرغبون في البقاء إلى الأبد. ما المانع؟ فليُجرّبوا حظوظهم، لكن ضمن برنامج، لا يسمح إلّا بانقلابيٍّ قادم للحلول محلّ آخَر راحل، أي لا تغيير.
غدا الأدبُ يدور في حلقة مُفرغة، يطرح الأسئلة التعجيزية نفسها التي لا تُفضي إلى شيء. عن الغرام والمنفى والجنس واليأس والجنون والتهتُّك… لا تعني أكثر من انسداد آفاق الحياة. أمّا وجه الخداع فهو أنّ الأدباء يقصدون فعلاً تغيير الواقع الذي يعيشونه، وليس طَرْح الأسئلة دونما جدوى، ما دام الواقع هو الذي يطرح ذاك السؤال الدائم: إلى أين؟ فالكتابة من أهدافها البحث عن حلّ، وإن كان هذا ليس جوهر العملية الإبداعية.
لم ينتهِ دَور المثقَّف
المشكلة، كانت التمسّك الأعمى بالمقولات، من دون إدراك أنّها لتأجيل المطلوب، أو للمُراوغة، وقد تصلح لما أصبح ماضياً، لا يُمكن تغييره. وإنما إعادة النظر فيه، أو في بلاد أُخرى ليس لديها ما يحتاج إلى تغيير، لكن ليس على أرضنا، من ثم علينا التحرُّر منها، وعدم التراجُع عن التغيير، وإن كان التراجُع عنه، قد حدث من فرط ما أصاب الأُدباء من إحباطات، كانت حصيلتها الصفر.
على ذمّة الكاتب الألماني إلياس كانيتي، في كتابه “ضمير الكلمات”، يذكر عبارة قالها كاتب مجهول في الثالث والعشرين من آب/ أغسطس 1939، قبل أسبوع من نشوب الحرب العالمية الثانية: “انتهى الأمر، لو أنني كاتب حقيقي لكان بوسعي أن أمنع الحرب”. ما يقوله يعني أنه لو كان لكلماته بصفته مثقّفاً تأثيرٌ في الواقع لأَوقَف الحرب، أي إنّ المثقّفين لم يعملوا جادّين على أن يكون لكلمتهم وزن للتأثير في الواقع، ما كلّف العالم أكثر من خمسين مليون قتيل، ويعني أيضاً لم يكن هُناك مَن يستمع إليهم، لأنّه ليس لديهم ما يقولونه، فالمثقّفون لم يعملوا على أن تكون كلمتُهم مسموعة، أي لم يكُن هناك كُتّاب يطمحون فعلاً إلى التغيير ويصرّون عليه، أمّا طرح الأسئلة فالواقع لا يملّ من طرحها.
لم ينتهِ دَور المثقّف، ما زال لديه الكثير من العمل، لكن عليه أن يُؤمن بنفسه وبضرورة التغيير، ليس من أجل منفعة ولا منصب أو تطبيع، أو جائزة يسعى إليها المحتالون والمخدوعون، وهي رشوات من السلطة، تهدف إلى التركيع، وإفقاد المثقّف روح المُبادرة، ربّما أثمرت كلمتُه ضدّ سلطات سياسية أو ثقافية، لا تمتلك أيّة سلطة عليه، إذ لا سلطة على الكاتب سوى الضمير.
فليطرح الكاتب أسئلته، وإذا كان لديه جواب، فلماذا لا يُغامر بطرحه؟
-
المصدر :
- العربي الجديد