لولا الحماقة وبعض الجنون لكانت “العقلانية” سمة عالمنا المعاصر، مع هذا ما زالت ترجح عليهما؛ فالحماقة تُلازم كلّ عصر، أمّا الجنون فيُسهم في إنتاج الحروب. هذا في حال لم نحسن النوايا.
بعد عصر النهضة والثورة الصناعية، وظهور الثلاثة الذين كان لهم الأثر الأكبر في القرن الماضي: داروين وفرويد وآينشتاين، كان في هذا التأثير قدرٌ من الحقيقة، شكّل لحظة مهينة للبشر، ما جعلهم يدركون أنّهم ليسوا مركز الكون، بل مجرّد شاغلين لهذا الكوكب، وعليهم التحلّي بالحكمة والرأفة؛ الحكمة في العناية بالبيئة والمناخ، ومغبّة استنزاف الطبيعة. أمّا الرأفة، فتوخّي الرحمة في التعامل، فلا تعاني شعوب من الجوع وشعوب من التخمة. والاعتراف بأنّ هناك نوازع خفية تتحكّم بالبشر، وليسوا بالبراءة التي يظنّون بها أنفسهم، هذا إذا اعتبرنا الجنس عاملاً مشيناً في سلوك الناس، يجب التخفّي عليه. وأيضاً التحذير من التقدُّم العلمي الذي يشهد قفزات يجب التحكّم بها، وإلّا أدّى إلى اختفاء البشرية.
ولقد كان في صالح الحقيقة انزياح الكثير من الأوهام، فالعقل لم يعُد في غياب، بات حاضراً، تجلّى في محاولات فهم العالم، والقبول بما بدا واقعاً قاسياً، فلا تعود للخرافات والأفكار الغيبية سطوة، وليس هذا فحسب، العقلانية تستلزم أيضاً على المدى الطويل؛ التخفّف إن لم يكن نبذ ما ظهر وتشبّثت به من أفكار بين فترة وأُخرى، كعدم اتخاذ الذرائع القومية مبرّراً لشنّ الحروب، ووضع نهاية للأفكار العنصرية، ليس لعدم جدواها، بل لأنّ العِلم أثبت سخافتها.
كأنّ اللامنطق متوطّن لدى البشر رغم تقدّم المعرفة
كانت التوقُّعات عظيمة ومبشّرة، فالمعرفة في تقدُّم واتساع، والجهل إلى تراجع حثيث، والدلائل قوية جدّاً في ثورات المعرفة في عالم يتقدّم بسرعة الصاروخ من خلال المخترعات والكشوف العلمية، ومؤخّراً الإنترنت ووسائل التواصل في عالم إلكتروني، مع التهديد السافر بأنّه ليس إلّا نشدان عالم افتراضي، قد يكون في النهاية لا شيء.
ماذا لو قلنا اليوم؛ إنّ العقلانية في خطر؟ ما سعت الإنسانية إلى تحقيقه، لم يكن كما أملت ولا توقّعت، ويتعدّى أحياناً الخلل إلى الانحراف الجسيم عمّا يُعدّ من الثوابت، بالتراجع الفعلي عنها من خلال تصرّفات دول وسياسيّين ومثقّفين على الرغم من آرائهم المضادّة.
تُطاول هذه الانتقادات المجتمعات الغربية، فالعقلنة لم تؤدّ في الدول المتقدّمة إلى القضاء على الكثير من المعتقدات التي ثبت بطلانها. ما أصاب دعوى التقدّم العِلمي والمعرفي الذي تتميّز به هذه المجتمعات بالاتهامات، والشواهد كثيرة تبدو في الدأب على إنهاك الطبيعة، والأخطار الناجمة عن العبث بالبيئة، ما بات هاجساً يومياً، رغم أنّها أصبحت على جدول الدول الكبرى من دون معالجة جدِّية لها، كذلك ضحايا الجوع، أضف إليها الأمراض والجهل وانتشار الديكتاتوريات. كما لم تتوقّف الصراعات والنزاعات، بل أصبحت أشدّ تدميراً، وبأسلحة متطوّرة أكثر وحشية.
بعد عدّة عقود من الاعتقاد بترسّخ العقلانية، لم تؤدّ إلى اختفاء ما هو معروف من أفكار خرجت من نطاق التفكير العام إلى حدّ أنّها اعتُبرت أفكاراً حمقاء، نراه في عودتها القوية، كظاهرة طريفة وشائعة تنبئ باحتلال التنجيم نصيباً في شؤون حياتنا، ما يوحي بالعودة إلى زمن يمكن وصفه بـ”ما قبل المنطقي”؛ فالبشر يعملون على النقيض من عقولهم، فهذه الأفكار القديمة التي تُعدّ من الخرافات، يبدو عدم انزياحها عن العقل أمراً لافتاً، سواء لدى النخبة أو العامّة. والمثير تشبّثهم بها، والتوسّع فيها. تأخذ بها عقول مسؤولة في الدول وقرارات مصيرية، يُستشار بشأنها عرّافون ومتنبّئون… والاستنجاد بحركة الكواكب لمعرفة الغيب ومواعيد الكوارث والقلاقل السياسية، وكأن اللامنطق متوطّن لدى البشر على الرغم من تقدّم المعرفة واضمحلال الجهل.
حسناً، ليست العقلانية في خطر؛ العقلانية في سُبات.
-
المصدر :
- العربي الجديد