قليلا ما نعثر في الرواية على عملٍ مُغلقٍ ينحو إلى التعبير عن معنى أُحادي، حتى لو كان الكاتب يقصده ويعوّل عليه، لكن هذا يعنيه وحده، إذ من طبيعة الرواية كعمل مفتوح أنَّ ما تثيره قد يختلف من قارئ لآخر، فهي كعمل تخييلي تحرّض خيال المتلقّي، ما يمنحها أبعاداً لم تخطر في ذهن كاتبها، وهو شطط غير مقصود لا ينجو منه كتاب، ويصعب ضبطه، فما يُستوحى يخضع ربما للهوى والمزاج، وما لا ندري.

على الطرف المعاكس، يربض نقّاد يبحثون عن مقولة واحدة تحتوي العمل كله، تعبر عنه دونما مراوغة، ربما بجملة واحدة، يقتصر المعنى عليها، مع ما في هذا الاقتصاد الشحيح من تعنُّت وقصر نظر عابث يقزّم الرواية إلى بضع كلمات، بينما الرواية عالم واسع.

لا يمكن تفسير رغبة النقد هذه إلا بالاستحواذ على الرواية، ووضعها تحت عنوان مهما كان عريضاً، فهو ضيّق، وكأن مهمّة النقد إدراج الروايات في قوائم، فيريح ويستريح، لهذا لا يُستغرب اكتشاف رواية بعد عدّة عقود، إن لم يكن قرون، أُهملت بتصنيفها تحت عنوان ما، قيدت إليه.

” كأن مهمّة النقد إدراج الروايات في قوائم ليريح ويستريح”

يمكن التغلُّب على هذا الاتجاه الشائع، بحقائق الأدب والنقد معاً، مع العلم، أنه ليس من التزيد الدفاع عن معنى شامل، أو مقولة رئيسة، وفي الوقت نفسه عدم الاقتصار عليها، ما دام يمكن تحميل الرواية أكثر من مقولة ومعنى، ولا نستبعد معاني متجاورة، متآلفة أو متناقضة، قد يحيل أحدها إلى الآخر، فالمعنى متشعّب، أو متكاثر، ومثلما يدور حول نفسه قد يذهب إلى آفاق ما، قد تكون مجهولة… فكلُّ شخصية أو حدث ومناقشة تُحيل إلى مقولة، حتى الصمت مقولة معترف بها، وحسبما يرى ناقد أو قارئ، قد تحمل معنى ما بالنسبة إليه، ربما تجاوز العمل نفسه.

الرواية عمل مفتوح، نلاحظ هذا من مراجعات النقّاد، فما يجده أحدهم لا يجده الآخر، إلا في حال الاستقرار على توصيف نهائي يُعزى إلى التقصير، لا الإحاطة. فالرواية تتفاعل مع عصرها، ومع ما يعقبه من أحداث وعصور، وما تحمله من متغيّرات في المفاهيم، بحيث تكتسب الرواية أكثر من حياة، تعتمد أكثر من قراءة. ولا يتطّلب هذا إبداعاً فنياً، فالفن لا يخترق الزمن، إنه أسير عصره، لكنه يُسهم في البناء عليه، بحيث يصبح من نسيجه، بينما ما يطرحه الكاتب يشكّل تحدياً، في ما إذا كان متجدّداً سواء في محاولات إلغائه أو إحيائه، فالحياة التي يكتسبها ليست إلّا في محاورته، وبالطبع انتقاده أيضاً.

من المفارقات أن تعثّرات الصحافة في قراءة الرواية، قد تنحو إلى القضاء عليها، لكنها تثير التساؤلات حولها، وليس من المطلوب التوافق حول قراءات للعمل، إلا بالخطوط الرئيسة، وهو أيضاً نادر في هذه الأيام، حين لا تحسن الصحافة الثقافية حتى تلخيص العمل، أو إعطاء فكرة عنه. وليس من المستغرب أبداً، ألّا يرى الكاتب نفسه ولا كتابه في هذه المراجعات.

الأصح برأينا القول إنَّ العمل الروائي يحمل معانيَ ظاهرة ومعاني باطنة، أي سطحية وعميقة. لا نعني بالسطحية المعنى السطحي، وإنما ظاهر العمل، وجهه الخارجي، سير الحكاية، وهي لا تتقدّم عبثاً، كما لا تلقائية عشوائية، خاصة من ناحية قدرتها على احتواء المعاني الباطنة. هذا إذا كان العمل عبارة عن طبقات، كل طبقة تقودنا إلى الأخرى، وان كانت تستغني عمّا يعقبها، لكن لا تتكامل المعاني الكلية إلا بالذهاب إلى الأعماق. ولا يمكن لأي عمل عظيم إلّا مراعاة الحياة ذاتها، فمثلما الحياة هي أكثر من هذا المرور العابر فيها، أو تتالي الأيام والفصول، إذ تحت هذا المشهد العادي، مشاهد تموج بشتى الاحتمالات والتوقّعات والمآسي والرجاءات، فالتعقّل لا يخفي الجنون، مهما تستّر عليه…

هل هي مهمة الرواية؟ إن لم يكن، فلأن الرواية لا تقل عن قصّة الحياة نفسها، تحفل بما لا يمكن توقّعه، ولا التيقّن بمعرفته، وكما مشوار الحياة بلا نهاية، كذلك الرواية.