أكثر ما يجد الخيالُ مجالَه الحرَّ في الرواية. لن نتكلَّم عن الشعر ولو كان إليه أسبق، فالسرد والوقائع في الأدب مدينةٌ إلى الرواية، طالما أن الخيال يصول ويجول فيها، والشائع أنّه يجد مجاله الأوفى إلى حدود التغريب في ساحاتها، يفتح للكاتب الأبواب، ليس نحو بقاع من الأرض مجهولة فقط، بل السماء أيضاً، ونحو الكواكب والمجرَّات، وعوالم مجرّد أنّنا نتخيّلها، نجوس فيها ونغشاها، إن لم نعش فيها ردحاً من الزمن، وقد لا نتمنّى الخروج منها، إن كان الواقعُ يقلقنا، أو لا يروي غليلنا، لكنه ليس بديلاً عنها.

أن نتخيّل، أي أن نسرح في عالم غير واقعي، ونحلم بأشياء لا يُمكن أن تحدث إلّا في فضاءاته غير المحدودة، في حال تحقّق شيء منها، فلأننا لم نبتعد كثيراً عن الواقع، مهما ابتعدنا، فنحن على مقربة منه، وكأنّنا لم نغادره.

الخيال نوعٌ من الرفاهية، قريبُ المتناول، يلامسُ الأوهام، إن لم يكن يصنعها أو من صناعتها، لا يخلو من خداع، ما دام أنه تصوّرات غير حقيقية، مجرّد ما نفارقه يتحلّل في الأثير، بينما نعودُ إلى الواقع، ونتعامل معه من دون تلك النفحة الجميلة الهائلة من الوهم، لكن ما تتركه في داخلنا، يساعدنا بقدر ما قد يزعجنا، إذ لا مكان لما أطلقه فينا من فتنةٍ آسرةٍ، ستكون محدودةً في عالم صلب.

نخطئ في حال قزّمنا الخيال إلى تهويماتٍ، إذ لا يقتصر على الأدب، بل يمتدُّ إلى العِلم أيضاً، وعلاقتُه به وثيقةٌ وأساسيةٌ، يعبّر عنها أرسطو، بأن الخيال هو أحدُ أُسس المعرفة، وربّما كان من سيّئات مجتمعاتنا العربية أنّها لم تدرك أهمية الخيال، ولا مدى صحة رأي أرسطو، فأهملته، وأهملت بذلك دورَه في تنمية مواهبَ كامنةٍ لدى الأطفال، وسمح إغفالُه بعدم المساهمة في تنمية قدراتهم.

لا يقتصر الخيال على الأدب بل يمتدُّ إلى العِلم أيضاً

حسب تشارلز داروين: “يوحد الخيال بين الصور والأفكار المسبقة، ما يخلق نتائجَ رائعةً”. أما عن فاعليته، فالقدرة على تكوين روابط بين المعلومات والأفكار والملاحظات، وتجميعها في مفاهيم، والتوصُّل إلى نظرياتٍ وأنماط. هذا هو الخيال الذي ساعد داروين على ابتكار نظريته في التطوّر.

يتبدّى على مسرح الواقع الكثير من الإنجازات المظفّرة للعلم، ولا يقلّ الأدب عنه على مسرح الخيال نفسه. إنَّ الكشف عن الذات والغوص في أغوارها، قد يشيران إلى أنّها مهمّةٌ عِلميةٌ أكثر منها أدبية، ولو كان الرأي القائل، أنه لا رواية من دون خيال، وهذا لا يفقده قيمته بقدر ما تتعزَّز، وهو أبسط ما يُقال ولا يُناقض ما تقدّم، فالخيال في الرواية يساعد على إدراك الواقع، وتجربة الحقائق التي تواجهنا. فالخيال لا يتحرّك في فراغات، بل في فضاءٍ يزخر بخبرات وتجارب وأفكار وثقافة ومشاعر وأحاسيس، إذ بقدر ما يختزن الكاتب منها، يستطيع التحرُّكَ من خلالها، والتأليف بينها واستخلاص النتائج منها، إلى حدِّ قراءة الماضي والتاريخ، والتنبُّؤِ بالمستقبل المُحتمل، ورؤية الواقع بشكلٍ أكثر ثراء، واستكناهِ وجهات نظر الآخرين، وتخيُّل العالم كما يرونه.

هذه القدرة لا تعني أنه عندما يكتب عنهم يتنبَّأ بأقوالهم وتصرُّفاتهم، إنه بمعنى ما يتقوَّل عنهم ويتصرَّف كأنه هم بالذات، والبديل لهم، فالكاتب يضع نفسه مكان الآخر، ويتخيَّل نفسه مكانه، فيتماهى معه، فيرى ما يراه، ويقول ما يقوله. فشكسبير، كان الملك لير وماكبث وعطيل وهاملت وريتشارد الثالث وأوفيليا… مثلما دوستويفسكي، كان راسكولينكوف وإيفان كارامازوف والأمير ميشكين.

يرى الكاتبُ العالمَ من خلال الآخرين، ما يساعده على إدراك الإمكانات الكامنة فيه، وينقلُه من الخيال المجرَّد إلى الواقع المتجسِّد والتعامُل معه. ليس الخيال مقتصراً على الأدباء، أو لا نصيب لغيرهم فيه، إنه مشاعٌ كما الهواء. بوسعنا أن نضيف بلا أيّة مبالغة، أنّه لا حياة من دون خيال، إذ يرافقنا من الطفولة إلى الموت، إذ كلُّ إنسانٍ يستعمله كما أي أديب، وليس بوسعنا أن نخطو في الواقع من دونه.