إنَّ أوّل ما ينكره، وآخر ما يفكّر فيه النظام الدولي المُسيطر في العالَم هو مسألة العدالة، وكان أوضح ما يكون في السبب الذي استدعى تأسيس “المحكمة الجنائية الدولية” عام 2002، باعتبارها المَلاذ الأخير لمحاكمة أفراد مسؤولين كبار عن فظائع تدلّ على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية وعمليات إبادة جماعية، ما جعل عشرات الدول لا تقبل بها؛ وهي الدول التي يمنحها التاريخ الوصف الأكثر ارتكاباً للجرائم: لائحة طويلة على رأسها “إسرائيل”، والولايات المتحدة، وروسيا، ولا تسمح لأيّة جهةٍ مقاضاتها، طالما أنّها تستطيع بالضغوط والتهديد والوعيد التنصّل من أي اتهام، بل تستطيع إدانة أيّة دولة، وأيضا أية محكمة.
هذه الدول تتصرّف على أنَّ لها الحقّ في أن تكون فوق القانون. مع هذا بلغ عدد الدول المنضمّة إلى بروتوكول روما الخاص بالمحكمة 134 دولةً حتى الآن. اعتُبر الاتهام الذي وجّهته المحكمة لـ”إسرائيل” قراراً تاريخيّاً، فمنذ الحرب العالمية الثانية، وتاريخ إقامة هذا الكيان، لم تجرؤ جهة على اتهامها، لا سيّما محكمة دولية. لذلك كان التلويح بالسعي إلى استصدار أمر اعتقال رئيس وزرائها، ووزير الدفاع، ما يساعد على سوقهما إلى المحاكمة، فيما لو قُبض عليهما، لارتكابهما جرائم حرب، من هجمات موجّهة ضدّ سكان مدنيّين، إلى التسبّب في الموت عن قصد، وارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، أدّت إليها القيود التي تفرضها “إسرائيل” على المساعدات التي تدخل غزّة، والطريقة التي تُدير بها الحرب، ما يرقى إلى استخدام المجاعة سلاحاً.
الاتهامات، حسب تقديرات مراقبين أقلّ بكثير ممّا ارتُكب، ومن شأنه توجيه الاتّهام بجريمة الإبادة الجماعية. أظهرت مخاوف “إسرائيل” ضُعف دفاعها عمّا اقترفته، ما لا يُساعدها على الإفلات من العقاب، مع أنّ المحكمة قصّرت في توجيه اتهامات لأعضاء مجلس الحرب الإسرائيلي، وهم الأشدّ عنصرية، إذ لم يوفّروا جهداً في التحريض على الإبادة.
جعل ذلك أميركا تتحرّك بفعل ثقلها الدولي، والتصرّف كرجل عصابات، بتوجيه تهديدات إلى المدّعي العام، بأنَّ المحكمة أنشئت من أجل أفريقيا، قد تحاكم رئيساً كبوتين، وليس الغرب وحلفاءه. اعتبرت أميركا الاتهام خطوة غير مسبوقة تجاه دولة ديمقراطية في حالة حرب، فـ”إسرائيل” ليست روسيا أو إيران، بل مجتمع لديه علاقات اقتصادية وأكاديمية وعلمية وتجارية متطوّرة في مجالات عدّة مع العالم المتحضّر.
دعاية صهيونية تعتبر المحتجّين ضدّ الإبادة “لاساميّين”
إنَّ مذكّرات التوقيف “مُشينة” حسب الرئيس الأميركي، و”مُخزية” حسب وزير خارجيته. أمّا “إسرائيل” فاستثمرت الهولوكوست، واستهدفت الفلسطينيّين، بتصريحات أكثر ما كانت وضوحاً في وصف عمليّة “طوفان الأقصى” بأنّها “أسوأ مذبحة لليهود منذ المحرقة”، وهو وصف بات نمطيّاً من كثرة ترديده لاستجلاب التعاطف، والإيحاء المستمرّ بأنَّ الفلسطينيّين يعادون “إسرائيل” من موقع كراهية “لاساميّة”، وليس ضدّ الاحتلال الاستيطاني والعنصرية الصهيونية. واليوم مع خروج مئات الآلاف في الجامعات والشوارع، تزعم بأنّ كلَّ العالم لا ساميّين، وكلّهم ضدها.
ليس مستغرباً مطالبة “إسرائيل” بفرض عقوبات ضدَّ المدّعي العام والقاضيات الثلاث في المحكمة، في حال صدرت أوامر الاعتقال، مثلما في أميركا هناك في مجلس النوّاب من يقترح اتّخاذ عقوبات شديدة ضدّهم بشكل شخصي، كأسلوب مافياوي لمكافحة العدالة.
إنَّ العمل على ترسيخ التمايُز بين الدول الكبيرة والصغيرة، الدول الغنيّة والفقيرة، ليس إلّا من سلالة الفكرة الاستعمارية، وتسويقها تحت غطاء التفوّق، فالقدرة على قيادة العالم لا تعني أبداً التحكّم فيه، ولا التصرّف في تفسير العدالة، كأنّها أُعطية تُمنح أو هبة تُمنع.
في مجال الحقوق تفترض العدالة فكرة المساواة، ولا يحقّ لدولة فرض جرائمها على أنها واقع لا يجوز المساس به، وكأن الاستيطان وطرد السكان الأصليين، أمر مفروغ منه، أو حقيقة أبدية، لا جدال حولها.
إنّ العدالة ليست تبرّعاً من حضارة منحازة، ولا منحة ديمقراطية زائفة، أو إحساناً من قوة غاشمة. تفترض العدالة ألّا حقوقاً تهضم، ولا أرضاً تُنهب، ولا بشراً يُضطهدون.
-
المصدر :
- العربي الجديد