انتشرت في أوروبا النزعة العدمية في الفكر والأدب، بعد ما شهدته من أهوال في الحرب العالمية الأُولى. لم تكتفِ القارة بأن تكون ساحة القتال، وإنّما استجرّت شعوب مستعمراتها إلى حروبها، وأشركتها بالدفاع عنها والموت معها، ثم تركتها لعذاباتها تلملم جراحاتها، بينما تفرّغت أوروبا لليأس.
تجلّت النزعة العدمية باقتناص الملذّات والانغماس في حياة باتت بلا معنىً، ليس الإنسان فيها أكثر من موتٍ مؤجّل. ما أدّى إلى تحويل أوروبا إلى ساحة لهوٍ وسهر في مرابع الليل على ضفاف الراين والتايمز والسين حتى مطلع الفجر، فالعيش لم يعد سوى تلك اللحظات الهاربة التي نجَت من جحيم الحرب، وكان في اختلاسها لهاثٌ إلى اغتراف المتع قبل حلول الحرب العالمية الثانية التي لم تخطئ موعدها. كان لهذا التشاؤم حكمةٌ، في أنه تحقّق، وسيختفي البشر في الخنادق، إن لم يكن في غياهب المعتقلات والقبور، ويصبح الإنسان رقماً ريثما يغادر عالماً من خراب.
بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، أدان المفكّرون الحضارة الغربية والتنوير والحداثة التي عجزت عن منع حرب أكلت الأخضر واليابس، وأباحت المجازر الجماعية، وأطلقتِ العنان للبربرية والهمجية، في قلب أوروبا حصن التقدُّم. لم تعدِ النزعة الإنسانية التي تفخر بها سوى وهم وسراب، وبات تماوت الإنسان حقيقة قائمة. ما حدث هو انكشاف تسلُّط الشرّ، على أنه من الطبائع الأصيلة للبشر، وفي غواية الدمار، وقابلية الحضارة للفناء.
كان لا بد من العودة إلى اليونان الذين اكتشفوا الإنسان على نحو آخر، إلى حدّ تمركزه في صميم آدابهم وفلسفاتهم. كان الاهتمام به لذاته، واعتباره مقياس الأشياء في الوجود، أي أن كلّ شيءٍ يجب أن يعود إليه، فكان السعي إلى الخير، واعتبار الحروب شرّاً مطلقاً.
تؤمن النزعة الإنسانية بالفرد بقدر ما تتفاءل بالمستقبل
كما، لم يكن بالوسع تجاهُل الأديان التي أحدثت نقلة هائلة باكتشاف الله، واعتبرت أنّ الجهد الإنساني ينبغي أن ينصرف إلى نبذ الشر ومحاربته، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، وتجنُّب كلّ ما يؤذي الإنسان. غير أن الدين في العصور الوسطى تحوّل إلى لاهوت، وغفل عن سعادة البشر، وحجر على الحضارة اليونانية بحجّة أنها وثنية، ونظر إلى الإنسان بوصفه لاشيء، مجرّد كائن عابر، وفانٍ، ليس إلى اكتمال بل إلى نقصان، وجرى التشكيك بإيمانه، والتشاؤم من إمكاناته، ما دام قابلاً للزلل. فهيمن الدين ليس كنعمة ورحمة، ما أباح التسلّط على إنسان محتقر وخاطئ، والتعويل على عالم الآخرة.
تعرف رواد عصر النهضة إلى الفلسفة اليونانية عن طريق العرب، ما خالف تصوّر اللاهوت عن الحياة والإنسان. بات العالم ميدانَ سعادة أو شقاء، والبشر أناساً أحراراً، قادرين على تحقيق المعجزات باستخدام مَلكاتهم التي زوّدهم بها الخالق، وإذا كانوا يرزحون تحت الفقر والجوع والجهل، فالتغلُّب عليها باستخدام العقل، أما التعصُّب الديني فقاتل للعقل والكرامة الإنسانية، والدعوة إلى التسامح والمصالحة بين البشر على الرغم من اختلافاتهم الدينية والمذهبية، واحترام حرية الفكر والضمير، فكانوا الرائدين لعصر التنوير.
لم تعد النزعة الإنسانية تمت إلى أزمنة مضت، تظهر وتختفي أو تُغيب. تخوض معاركها من عصر إلى عصر، باتت تركز على الإنسان وتثق بقدراته على تحقيق التقدّم والتطور، تحكمها نزعة متفائلة بالمستقبل، تهتم بالدنيا، أما عالم الآخرة، ففي الآخرة، ولا تعارض بينهما. فالنزعة الإنسانية، تؤمن بالفرد ليس معزولاً عن الجماعة، وأصبح بالقياس إليها مهمّاً بحدِّ ذاته، وليس شخصاً مندمجاً فيها فقط.
إن التشكيك بالنزعة الإنسانية هو تشكيك في العقل، بينما البشرية بحاجة إلى المزيد من العقلانية تلك التي صنعت الحضارة الإنسانية، ومهما غشاها الظلام، فلا بديل عن النور.
-
المصدر :
- العربي الجديد