يمكن النظر إلى الطغيان على أنه الشرّ، والطاغية على أنه الشرّير؛ وحسبما يقول دوستويفسكي: “يمكن فهم الشرّ، لكن لا شيء أكثر صعوبة من فهم الشرّير”. تُرى، هل الحماقة وحدها كافية لفهم هذا النزوع الإجرامي إلى البطش الأعمى للآخر، لا سيما هؤلاء الذين يمتّون بصِلة إلى الطاغية؛ شعبه، على سبيل المثال؟
لا شطط في الادعاء بأن هناك متلازمة بين الطغيان والحماقة، فالطغيان علامة متكرّرة الحدوث في التاريخ البشري، وهو الأكثر حضوراً وصموداً وتوارداً، إلى حدّ أنه بات المسيرة اللصيقة بعدد كبير من الحُكّام القساة، يصحّ وصفهم بالطغاة، حتى غدت حماقاتهم المستهجنة مادّةً للاستغراب الشديد والإدانة، والتندّر أيضاً، على الرغم من الوحشية التي لازمت تصرفاتهم. وليسوا وحدهم في هذا المضمار؛ هناك غيرهم، ليسوا أقل شأناً، وإنْ كانوا أقلّ مكانة؛ فالحماقة في انتشار حثيث، مثلما الإنسانية في تقدُّم خجول.
لماذا التركيز على الطغاة أكثر من غيرهم؟ لأنهم ــ أباطرةً وملوكاً وأمراء وولاة، وفي العصر الحاضر: رؤساءَ دول وقادةً كباراً ــ تحكّموا بأقدار ملايين الناس. وفي هذا أمثلة من القدماء، منها تيبيريوس وكاليغولا ونيرون، وهم غيضٌ من فيض. ومن المحدثين: رؤساء وقادة أحزاب عنصرية، تساهم بلادنا بنصيب وافر منهم، ولا تقلّل وضاعتهم من النظر إليهم بجدّية، وهذا من شدّة تأثيرهم، ما دام رئيس القوة العظمى ــ ترامب ــ وُصف قبل سنوات بالحماقة.
في العصور القديمة، بدا من الطبيعي أن يكون الملك طاغية. إذ كيف يحكم شعبه إلّا ببأسه، ويقنعه بعرشه إلا بتوارث الادعاء أنه يحكم بتفويض إلهي، إن لم تكن الآلهة أرسلته؟ أما الاستثناء، فهو أن يكون إنساناً طيباً، كالإمبراطور ماركوس أوريليوس، وإذا كان قد شذّ عنهم، فلأنه كان فيلسوفاً، وليس وحده، لكنّ أمثاله قلة، وهذا القليل تمتّع بالحكمة والفطنة والحصافة، بصرف النظر عن الحنكة العسكرية.
تميّزت تصرّفات الطغاة بالصبيانية والطيش، وأدّت إلى نتائج دموية، فكأن العالم والبشر صُنعوا من أجلهم، يتصرّفون بهم كما يشاؤون، يمنحون الحياة أو الموت لشعبهم وللشعوب الأخرى. كانوا أحراراً بما يأتونه من حروب ومجازر واغتيالات، ولم تكن حريتهم إلّا حرّية الشر.
لا شطط في الادعاء بأن هناك متلازمة بين الطغيان والحماقة
في زمن الأيديولوجيات، كانت فترة سوداء تطلّبت من طغاة تقمّصتهم آفة العظمة الإطباق على شعبهم وتوحيد أفكارهم على نمط واحد؛ كان من جرّائها سَوقهم إلى حروب عالمية، كلّفت ملايين الضحايا. لم يربحوا الحرب، وكان عقاب الذين اعتقدوا أنهم أشبه بالآلهة، ظفرهم بميتة شنيعة.
في بدايات الألفية الثالثة، طرأ تقدُّم على سلوك الطاغية من ناحية التركيز على ما يتلاءم مع العصر؛ مثلاً، لا طاغية اليوم من دون مناسبات وطنية أو قومية شكلية، أو انتخابات وانتصارات زائفة، وصور تملأ الشوارع، وتجنيد قنوات فضائية وإعلام وصحافة ودعاية وذباب إلكتروني وشركات علاقات عامة وجيش ومليشيات.
من جانب آخر، أصاب الطاغية الانحطاط، فلم تقتصر حماقاته على أفعاله الطائشة؛ أصبح يسرق ويكذب ويهرّج ويتفلسف ويتاجر بالممنوعات. بعدما كانت أفعاله، من قبل، نهب الشعب بالضرائب لتمويل حملاته العسكرية؛ اليوم لا تكفي الضرائب لشراء محللين سياسيين وعملاء وجواسيس ومخبرين وموالين، عدا ما يتطلبه البذخ والمتَع والنزوات. كذلك نزعة تكديس الثروات في البنوك الأجنبية، والطموح إلى ما يضارع ثروات بيل غيتس وإيلون ماسك الأسطورية. وقد تزيد عنهم من دون تعب ولا شقاء ولا تشغيل مخ، ما أدى بهم إلى ممارسة الأعمال التجارية؛ كانت في تجارة المخدرات، ففي النهاية، كما في البداية، لا تزيد عن صناعة وزراعة وبيع وشراء. ما يحيلنا إلى أن الطغيان، رغم انحطاطه، لا يعاني بقدر ما يزدهر، طالما الحضارة الحديثة تقدّم له الوسائل.
وكي نفهم هذه الحماقة التي لا مفرّ منها، لا بدّ من تبريرها كي تكون عذراً لهم. ولنقرأ تعليقاً للفيلسوف الهولندي إيراسموس، صاحب كتاب “مديح الحماقة”: “إنّ الأمراء والملوك يعبدون الجنون، إذ لو أنّهم حكموا حكمًا صائبًا مع ما يتحمّلونه من أعباء، فإن حياتهم ستكون حزينة وبائسة، بينما أن يكون المرء حاكمًا يقتضي منه العمل ليل نهار في سبيل الصالح العام، وعدم الانحراف عن القوانين، والتأكد من نزاهة عمَّاله؛ وطالما شعبه ينظر إليه؛ فتصرفاته تحت المجهر، يمكن أن تؤثّر تأثيرًا مفيدًا”.
الخلاصة، وهكذا نرى، أن يكون الحاكم صالحاً مشقّة لا تطاق، بينما الطغيان أسهل، تأثيره أقوى، ولو لم يكن مفيداً.
-
المصدر :
- العربي الجديد