في مقابلة له يجيب الروائي السوري فواز حداد على سؤال صحفي قائلا: ما يشغلني لا يقتصر على هذه الأيام، ولا عليّ وحدي، بل على السوريين جميعاً وإلى حد ما على العرب، مضيفاً؛ الثورة اضطرتنا نحن الكتّاب إلى إعادة النظر في حياتنا من منظور ما كشف عنه “الربيع” الذي حوّله النظام إلى جحيم، وما انتشر من أمراض سياسية ودينية واجتماعية.

لعل الانطلاق من هذه المنصة يحفّز الكشف عن المعضلة الإنسانية والكارثية التي لا تعاني منها سورية وحدها وإنما أغلب أوطاننا العربية؛ وهي التي جسدتها رواية “الشاعر وجامع الحواشي” “لفواز حداد” الذي طالما اتخذ من السرد التاريخي الاجتماعي والحفر العميق في التاريخ السياسي أداة للتعبير عن مفارقات الواقع بكل تناقضاته وتعقيداته وقبحه.

فقد سعى باحثاً ومتقصياً في أحداث الأزمة السورية المؤلمة وباتجاهات مختلفة ومتشابكة وبحنكة جعلت منها خلفية لمسرح فنتازي متحرك لأحداث الرواية التي اتخذت بعدين، أحدهما تاريخي له علاقة بأماكن معروفة وآخر خيالي في مكان متخيل مارس فيه السخرية؛ حيث تتصدر الأحداث شخصيتان محوريتان تنقل بينهما وبين عناصر شخصياتها الأخرى التي لا تقل أهمية وخطورة في تشكيل تداعيات الأزمة. الرواية مركبة الأحداث وتنطوي في جوانب منها على رمزية بمساحات واسعة وخطوط متعرجة فاتحة الأبواب على التأويلات برغم وضوح شخصياتها وأدوارهم.

شاعر لكنه مخبر
تمثلت الشخصية المحورية في شاعر مثقف ملتبس ومتدني الموهبة، اعتقد في دواخله بأنه إنسان وطني ميال للمعارضة؛ في حقيقة أمره ما هو إلا “مخبر، جاسوس وعميل” اعتزل الشعر منذ سنوات، لكنه معروف ومحترم له مكانة مرموقة في الوسط الثقافي وعرف عنه بأنه صاحب آراء مستقلة وموضوعية هي الأقرب للمعارضة، كما يتمتع بتنوع شبكة تواصل وعلاقات بشخصيات معارضة، أما كيف ولماذا حدث ذلك؟ فلذلك حكاية غريبة تكمن في تساهل السلطة وأجهزتها الأمنية معه وبما كانت تشيعه عنه وتنشره من تصورات دون علمه ودرايته شكلت الصورة الذهنية عنه لدى العامة وفي الوسط الثقافي، حدث هذا بشكل تراكمي وعلى مدى سنوات. هنا ثمة ما يماط اللثام عنه في النص في كيفية استثمارالسلطة للموالين لها من بعض المثقفين والمعارضين المهزوزين وتطويعهم لاسيما الذين يحاذرون تجاوز خطوطها الحمراء، في النص:

– أعتقدتُ أنه الحظ.
– “الحظ لا يكون مبرمجاً”. لم يتطرق مدير إدارة الأبحاث الاجتماعية واليد الخفية التي يمثلها خالد إلى السبب، تابع حديثه الذي بدأه، وانتقل إلى الشهرة التي يتمتع بها ضيفه في البلدان العربية؛ لم تكن مجانية. “لقد جرى الاعتناء بتصديرك إلى الخارج”.
– “لا علم لي بذلك”.
– “كما إنك لم تُنتقد عندما لم تعلن عن موقفك من الأزمة. لقد اضطروا إلى إسكات أطراف كثر، ومنعهم من التعريض بك والتحريض عليك، تلك الجهة لم تحاول التدخل في مقالاتك. في الحقيقة، كي لا نبالغ مارست عليك رقابة كانت بالحد الأدنى. كان ذكاء منك، أنك لم تتطرق إلى موضوعات حساسة، أحسنت تجنبها…بالمناسبة لم تُمنع من السفر، أو تُستدع إلى التحقيق..كانت أعطية لا يستهان بها…لقد منحناك الأفضلية…هناك غيرك لكنهم اهتموا بك بشكل خاص”.

إذن لا شئ دون مقابل، لقد جاءت الضرورة؛ وقت تسديد الثمن بعد الانتفاضة من قبل المثقف التابع صنيعة النظام، حيث يتم تكليف الشاعر “مأمون” بمهمة أدبية في شكلها الخارجي بيد إنها مهمة أمنية مخابراتية في جوهرها وحقيقتها، وهي حول ظاهرة استجدت في “ضيعة مغربال” الواقعة بين الساحل والجبل، تتعلق بنشأة حركة تدين غامضة يدور في أوساطها الصراع بين فريقين أو جيلين على قضية عبثية تتعلق بتخليق “دين جديد” وابتكاره حيث تلعب اليد الخفية دورها منذ البداية للسيطرة عليه وتوجيهه، أما سكان “مغربال” الوهمية، فهم خليط طائفي، سنة وشيعة، مسيحيون وإسماعيليون، والضيعة كانت أحد مراكز التهريب، وفيما بعد الحرب أصبحت خزاناً بشرياً يزود النظام بالجنود والشبيحة لكنها اشتهرت بالأدباء الموهوبين، شعراء وكتاب قصة قصيرة.

مثقف تحركه اليد الخفية
الشخصية الأخرى المقابلة كانت لجامع الهوامش المنعزل عن الوجود والذي كان فيما مضى استاذاً ومعلماً تحول بعد الثورة إلى منظِّر مكتنز المعرفة بما لديه من اطِّلاع على الكتب والمؤلفات وباحث هوامش استقصائي في الدين والتدين يؤدي دور “المستشار” لجماعة يقودها “لواء ركن” متقاعد يمثل أحد أطراف حركة التدين الغامضة في مشهد فانتازي تتخلله حوارات سفسطائية تتناول تجديد الخطاب الديني من خلال الرموز والخيال والتهكم الذي عكسه مسار تطور شخصية المستشار وتحولاتها التي ترافقت مع تشكيل “الدين الجديد” حتى انتهى الأمر بموته بصورة سريالية في بيته ومع هوامشه وكومة الكتب “المراجع النادرة” التي حصل عليها كعمولة من تعاونه مع اليد الخفية “إدارة الأبحاث الاجتماعية” التي أمرت باغتياله حين استنفد دوره، في النص:

– الشاحنة تنزل حمولتها، الصناديق تنفرط محتوياتها من الكتب على الأرض، السائق يحمل أكداساً منها ويرميها إلى المدخل والنوافذ، الشاحنة واقفة..جرافة ضخمة تضرب الجدار، تقتحم البيت، وتتابع التقدم إلى داخله…المستشار في الداخل خنقته الكتب والهوامش. الجرافة لا تتوقف عن العمل، تتابع التقدم؛ تهدم الجدران وتسوى الكتب مع الأرض، يتصاعد غبار كثيف يحجب الرؤية، الجرافة تسحق كل ما يصادفها، والغبار يبتلعه. ضياء يشق طريقه وسط الغبار؛ لا أثر للهوامش، تحللت وتلاشت في الفراغ…”.

الهوامش غالباً ما يهملها القراء، بيد إن المؤلف استحضرها وجعل منها فعلاً تتحرك من خلاله شخصيات الرواية، لم لا وهي التي تحكمت بمصائر الناس وتطلعاتهم وبما كان يكتب من هوامش في تقارير المخبرين التي يعاد صياغتها تبعاً لتعليمات “إدارة الأبحاث الاجتماعية، وفروع المخابرات”، فهم أيضا صناع المستشار وهوامشه.

دين جديد على المقاس
أسهب المؤلف في تحليل الدين والتدين لاسيما ذاك الذي نشأ مع بروز المعارضات الدينية، وعلى ذات النسق ركز على الحرب التي يخوضها النظام مستخدماً الدين في محاولاته المستمرة لتثبيت مسألة على غاية من الأهمية وهي أن الإيمان بالله يعني الإيمان به. كذلك استطرد في قضية التفلسف حول “نظرية الخلود” التي جعلته يتصرف كإله أبدي. من النص:

– “…إن سورية كانت تهدم نصفها في هذه الحرب، ومرشحة لأن تتهدم بالكامل، النظام سيعيد إعمارها على النمط الحداثي، وبالتالي الدين الجديد سيأخذ مكانته في إعادة الإعمار، البلد لا تعمر بلا دين، استعادة التدين لن يكون بالعودة إلى ما كنا عليه، لاسيما وأنه عاجلاً أو آجلاً تحل نهاية الرجعية الدينية…” ويرد الشاعر المخبر:
– “..قصة البحث عن إله جديد ليست بالاتجاه السليم ولا المعقول، إنها مضيعة للوقت، طالما هناك إله راسخ في عقول الناس، فلماذا يضاف إلهاً ثانياً، إلا إذا كان الهدف منه التشويش على معتقداتهم؟” “الإدارة” ترد:
– “..أية حركة دينية إن لم تنشغل بالقضايا اللاهوتية، ستعيث فساداً في الأرض ويكون ضررها أكثر من نفعها”.

بين التشبيح والتعفيش
في وضع الأزمة المدمرة يرصد “حداد ” انعطافات الحرب العبثية وكيف تحول الوطن إلى مناطق نفوذ بين المخابرات والشبيحة والموالين وعصابات النهب الطائفية، كما يتعمق باحترافية في وصف الموت والدماء مقروناً بأفعال أزلام النظام وتعرية الوجه القبيح لعوالم الجريمة والاغتصاب والحصار والاعتقال والتعذيب والشبيحة والتشبيح؛ اشتكى مدير “المركز الثقافي” بالضيعة مرة “لوزارة الثقافة” احتلال الشبيحة الجائر للمركز، قال:
المبنى مرصود للثقافة، لا للتشبيح. قيل له أن لا شئ يمنعهم من تجاوز أي قانون، وإن الأزمة لم تضعهم فوق الثقافة والأدب والمسرح والسينما فقط، بل وفوق القانون والبشر، فقد كان الشبيحة يقومون بالغارات يختطفون الشبان المشتبه بمشاركتهم في المظاهرات، ثم يمارسون واجبهم الوطني بتعذيبهم قبل تسليمهم إلى فرع المخابرات أحياء أو نصف أحياء، ومن يموت، يرمون جثته خارج مغربال…تأسف الشبيح “زيدون” عن هذا الإزعاج للمدير وقال: أما عن الأصوات، فلا يمكن كتمها إلا بكتم أنفاس المعتقلين، وإذا كان له أن يحصل، فبعد انتهاء التحقيق معهم. يستطرد المؤلف:

– “..إنه قانون واحد، يسري في البلد؛ قانون التشبيح، لا يشبه أي قانون في العالم، يبيح استعمال العصي والقضبان الحديدية والهراوات والقنابل الدخانية والرصاص والدعس..بلا كابح ولا حدود، ومن غير مساءلة؛ لا مكان إلا للشبيحة، كل موال مسؤولاً كان أو وزيراً، أو نائباً، أو ضابطاً، أو صحفياً، أو كاتباً، أو محللاً سياسياً، أو مذيعاً…أصبح شبيحاً، على الرغم من قناعة النظام بأن قدراتهم العقلية محدودة وفي تضاؤل يعوّلون على عضلاتهم لا على رؤوسهم، أما من شاء المعارضة جهراً، فعليه مغادرة البلد، كلمة واحدة أو خطأ تافه يؤدي به إلى المجهول وهو ليس سوى الموت، أو أشدها التعذيب والإذلال والجنون والموت البطئ”.

في السياق يعالج الروائي الفساد الذي أفرز ثقافة “التعفيش” والنهب الذي يقوم به المعفشون بعد حصار المنطقة يصف المشهد “..يمشطونها ويعفشون ما أصبح مشاعاً بكل ما يصلح للاستخدام أو البيع، ما شكل تجاوزات وصلت لقتل عائلة بكاملها وبما يحلل لهم الاستيلاء على كل ما يحتويه منزلهم، تكدس المنهوبات في شاحنات..، الإرهابيون أيضاً يعفشون في المناطق التي حرروها، عفشوا النفط وصوامع الحبوب والغاز والآثار.
إنها الحرب تمد نفسها بالوقود اللازم، وإلا ستتوقف، لا تظنها قصيدة شعر، حرب عرت جهل المثقفين بالشعب، وجهل الشعب بهم، ومع ذلك فالانتفاضة أسقطت الحواجز بين الناس “..حاجز الخوف سقط؛ المظاهرات تتوالد من بعضها بعضاً ومواكب تشييع الشهداء تتحول إلى مظاهرة، ومظاهر العزاء تتحول إلى عرس للشهادة يمتد طوال الليل. كانت ثورة البشر العاديين، يدفنون أولادهم بالعشرات. ولم يكن لهم إلا الله، هتافاتهم: “يالله مالنا غيرك يا الله”. عندما يسقط لهم شهيد، يسارعون إذا بقى فيه رمق، لتلقينه الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. لقنوا شاباً مسيحياً الشهادة، ودفنوه في مقابر المسلمين، ورسموا الصليب على الشاهدة. الانتفاضة لا تميز بين أديان الشهداء ومذاهبهم. في السماء جنة واحدة لا اثنتان، الجنة لا تميز بين البشر، ..لم تكن ثورة مثقفين، لقد اكتشف المثقفون العلمانيون البعثيون والشيوعيون واليساريون والقوميون السوريون فجأة أنهم سنة وعلويون ومسيحيون ودوروز وشيعة.
على هذا المنوال تحركت أحداث الرواية حتى نهايتها؛ بين تعرية أوجه الظلم والانتهاكات والتسلط الذي يتحكم فيه النظام بمصائر البشر، وبين توثيق ما حدث شهادة للتاريخ إزاء شهادات الزور والتزوير التي عبر عنها من باعوا ضمائرهم وإنسانيتهم من الشعراء والمثقفين العملاء الذين تحركهم الأيادي الخفية.