عندما سئل رئيس الوزراء الصيني الشيوعي شو إن لاي، عن رأيه في الثورة الفرنسية، وكان قد مضى على حدوثها 160 عاماً، أجاب بأنّ من المبكر جداً أن يقول رأيه، إذ من الصعب تقدير امتداد تأثيراتها في المستقبل. المثير، كأن المستقبل لم يحلّ حتى بعد 160 عاماً. إجابة أصبحت شهيرة، جرى تداولها، بينما كانت ثورات التحرر في العالم تتوالى انتصاراتها، ويتكاثر أنصارها، تنشد المثال الشيوعي في الاتحاد السوفياتي والصين، وكانت الدولتان في ذروة صعودهما.

تأخذ الثورات وقتاً كي تتكشف مفاعيلها البعيدة، فالأمر بالنسبة إلى التاريخ ليس بانتصار الثورة والاستيلاء على السلطة، بل وماذا بعد؟ أين ستنتشر أو تتسلل أو تنتقل؟ ولا يستبعد أن تفاجئنا في مكان، بينما تختفي في آخر. وأيضاً ماذا ستؤسس، أو تُرسخ؟ الكثير من الأسئلة، أكثرها أهمية تلك التي لا تخطر على البال.

يعمل التاريخ ببطء شديد، وإن كان في حالة سيولة دائمة، وركود ظاهري رغم تتالي العصور، نلمحه، وقد نخطئ التفاعلات الخفية التي تسري تحت السطح. وبالرغم من أن قدراً كبيراً من آثار الثورة الفرنسية ظهر في الثورة البلشفية والصينية، لولاها لما كانتا، لكنه لم يكن كافياً، وإن بدا للمراقب وكأن الثورات أفلست بتفكك الكتلة الاشتراكية، وتحوّل الصين إلى دولة رأسمالية مع الحفاظ على الجانب السياسي بقبضة قوية، بذلك أسدل ستار الختام على الدول الاشتراكية.

” السلطة رهينة تجاذبات الطموح إليها لا طوع إرادة الناس”

ذهب الاعتقاد مع سقوط التجربتين الروسية والصينية، أن كوكب الأرض أنهى قصته مع الدولة الشمولية أيضاً، رغم بقايا نماذج تافهة على نمطها، ولو كان بشكل مصغر نوعاً ما في كوريا الشمالية وسورية وبعض الدول المتخلفة، إضافة إلى طلائع دول شمولية في طور التشكل، ولا تستثنى من مفاعيلها دول غربية يؤهل عودتها صعود الشعبويات والعنصريات، كما حدث من قبل في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية قبل الحرب العالمية الثانية، وإن بدا ألّا حظ لها، فالعقل تجاوزها، لكن سياسيين حواة تستهويهم المجاهرة بها للوصول إلى السلطة.

وإذا كان يصعب التنبؤ بالقادم، فلاستحالة ضبط المستقبل، ولا سيما أن التجربة الاشتراكية أفلتت فيما بعد من تنظيرات مفكريها الكبار، ولم تستجب لما استجد. باتت السلطة رهينة تجاذبات الطموح إليها، لا طوع إرادة الناس. وكان من اختراع هذه الأنظمة عبادة الفرد، وما زالت حتى اليوم تعمل على صناعة فرد تعبده، وكأن الجماهير مصابة بعقدة العبودية، لا يستقيم حالها، ولا تساس من دون قائد معتوه يقودها إلى الكارثة.

لم يقل التاريخ كلمته، بما أنه لم يضع نقطة النهاية. وفي حال احتكام البشرية إلى العقل، فلا بديل من اقتلاع الدول الشمولية، وما دام أنها تظهر وتختفي، تبدو أرواحها تسري من عصر إلى عصر، فالدول والإمبراطوريات السالفة كان هذا طابعها، كذلك الجمهوريات التي تلتها لم تقل عنها شمولية، فإذا كان الحق الإلهي قد سبق، فالأيديولوجيات تبتدع تصوراتها الجهنمية عن دول تنشد الخير للشعب بينما تستعين بالشر للهيمنة عليه.

لذلك، نفهم الجواب الغامض والواضح لشو ان لاي. في الواقع لم تنتهِ تداعيات الثورة الفرنسية، ما زال لدى البشر توق إلى هذا الحلم العظيم، لم يستنفد بعد، أو جولة أخرى، أو رجاء بتحوّل منتظر، فشعلة العدالة الاجتماعية لا تخبو، ولا تضيرها نهايات اعتباطية. فلا نتعجل النتائج، لم تستقر الثورة ولا الثورة المضادة على حال بعد، هناك ما سيعقبهما. هل هذا ما يُدعى متاهة التاريخ؟ ما يمكن الثقة به، أن على البشر ألا يغفلوا عن الدفاع عن حرياتهم، فلم تكن الحرية يوماً هبة من حاكم، إنها هبة الحياة.