يُعتقد أنّ الكاتب مَدين لعاداته في الكتابة، التي تُوفّر له الجو المناسب، لاستدراج الإلهام، أو على الأقل المزاج الطيّب للتأمًّل وصفاء البال، ما يساعده على الاستغراق في الكتابة، ويُهيّئه للخروج من عالمنا، أو الانفصال عنه، والانصراف إلى عالم من تخيُّلاته. ما يجعل تلك العادات عاملاً فعّالاً في الكتابة، فتوصف بالطقوس المقدّسة، لولاها لا إبداع. إذا كانت كذلك، فربّما في التعرُّف إليها ما يقودنا إلى المناخ الملائم لصنعة الأدب، يوفّر الكثير من هدر الوقت في تجارب قد لا تفضي إلى شيء، في حين هناك ما نستدلّ إليه ممّن سبقونا من أعلام الكُتّاب، أصحاب التجارب الكبيرة في حال اقتفينا أثرهم.
سنلاحظ أنّ عادة الكتابة من حيث الزمن، متوزّعة بين النهار والليل، ففي الكتابة الصباحية، على سبيل المثال، يستيقظ توماس مان في الثامنة، وبعدما يستحمّ ويفطر ويشرب قهوته، يبدأ الكتابة، ومثله هنري ميللر وإرنست همنغواي ووليم فوكنر وغونتر غراس وجورج أورويل وفلاديمير نابوكوف… وطبعاً الروائي المصري نجيب محفوظ. أمّا الروائيون الذين يكتبون ليلاً فمنهم أونوريه دي بلزاك، ومارسيل بروست، وجيمس جويس، وفرانز كافكا وأمبرتو إيكو، بينما الكتابة عند صموئيل بيكيت وسكوت فيتزجيرالد تبدأ ظهراً إلى ما بعد العصر… ومن الممكن أن تطرأ بعض المتغيّرات الطفيفة على هذه العادات، وإن كان الكاتب لا يحبّذها، إلّا إذا اضطرّ إليها لفترة مؤقّتة، فينتقل من الدوام الصباحي إلى المسائي، وحتى لو كان متشبّثاً بالمكان، قد يستطيع الكتابة في المقهى.
بينما الغالبية من الكتّاب العرب يكتبون ليلاً، لارتباطهم في الصباح بوظائفهم، حيث لا يمكنهم التفرّغ، فالأدب لا يدرّ مالاً، ولا يستغنون عن مورد رزقهم. في حين كتّاب الغرب ينسحبون من العمل بعد كتاب ناجح حقّق مبيعات جيّدة، ويتفرّغون كلّياً للكتابة التي تصبح مورد رزقهم ورفاهيتهم.
تكتب غالبية الكتّاب العرب ليلاً لارتباطهم بوظائفهم
كمثال متميّز، نجد نجيب محفوظ واحداً من القلّة النادرة في الوفاء لعاداته، فقد حافظ على الاستيقاظ باكراً، والكتابة قبل الذهاب إلى الوظيفة. كان دقيقاً لا يتأخّر عن عمله، يذهب بعد القيلولة ظهراً إلى مقهى “ريش” أو يسهر في العوّامة مع شلّته المعروفة من الأدباء والفنّانين، ولم يتفرّغ للكتابة إلّا بعد التقاعد، رغم شهرته الواسعة، ورواج كتبه في البلاد العربية.
في الواقع، لا يختار الكاتب ساعات عمله، بقدر ما تختاره عاداته، فهمنغواي لم يحافظ على كتابته الصباحية إلّا بحكم عادة الاستيقاظ باكراً، عندما كان مراسلاً حربياً في الحرب العالمية الأولى، ترسّخت مع هوايته للصيد في الأدغال. كذلك مارسيل بروست كان انطوائياً يكتب ليلاً، مكرِّساً عزلته لكتابة أضخم عمل روائي، بينما يقدّم فيليب روث مثالاً طيّعاً عن الكتابة ساعة يشاء.
لا بأس في القول إنّ الكاتب لا يسيطر على ظروفه، فإذا اعتاد على الكتابة في زمان معيّن، ومكان معيّن، فلا يعني أنّها مقدّسة، أو يفارقه الإلهام لو أنه حُرم منها، أو أنّه سيتوقّف عن الكتابة في حال اختلفت ظروفه، بل سيضطر إلى التأقلم مع المتغيّر الجديد. وربما هناك نصيحة ذات جدوى، من الممكن الاستفادة منها، يمكن اعتبارها من العادات التي يلجأ إليها بعض الكتّاب، يعبّر عنها هنري ميللر بالقول إنّ “على الكاتب التوقّف عن الكتابة حين يكتشف أنّه ما زال لديه ما يريد قوله”. بينما يردّدها همنغواي على الشكل التالي: “على الكاتب التوقّف عن الكتابة حين يعرف ما سيحصل لاحقاً”. أي لن يبدأ الكتابة في اليوم التالي من فراغ، ففي رأسه ما يريد كتابته.
مهما كانت هذه الطقوس والعادات أو النصائح، فما يمكن تعلّمه من الكتّاب هو ألّا نقلّدهم، ما يريحهم قد لا يريحنا وبالعكس. في النهاية لا تعدو أكثر من شكليات طيّبة، وإذا كنّا قد تعرّفنا إليها، فمن باب الفضول، فالمشاهير يجتذبون الأنظار، ويساهمون فيها للسبب نفسه. أمّا النصيحة المثلى، فهي إنّ على الكاتب أن يكون نفسه لا غيره، فهؤلاء الذين يتأثّرون بهمنغواي أو ماركيز أو غيرهما، مهما تعمّدوا تقليدهم، فلن يماثلوهم. المشكلة في عملية الكتابة، وليس في ادّعاء المظاهر، إنها في ما يخفونه، لا ما يكشفونه، حتى أنّ أسرارهم في الكتابة، مبعث عبقريتهم، فغالباً غامضة حتى عليهم، هم الذين يصنعونها، وربّما تصنعهم.
-
المصدر :
- العربي الجديد