شنَّ رأس النظام في سوريا الحرب على الشعب في خطابه أواخر آذار 2011 بعدما عقد جولة استشارات مكثفة شاركت فيها الحلقة الضيقة، والدولة العميقة، خصوصاً الأجهزة الأمنية، إضافة إلى الرفاق الملالي. أجمعت الآراء على أنه لو تُركت المظاهرات والاحتجاجات تستمر، فسوف تتفاقم، وسيأخذ القضاء عليها وقتا يسمح بتدخل الدول الإقليمية وأوروبا وربما أمريكا، لذا في سرعة قمعها توفيرا للوقت، لن يأخذ أكثر من شهر، وربما أكثر… فأخذ بنصيحتهم، فأعلن الحل السياسي، ومضى في الحل العسكري.

من فرط ما اقتنع بهذا الحل، اعتبرها نبوءة، سيزعم الناصحون مع الوقت أنها كانت صادقة وفي محلها. وإذا كانت الحملة العسكرية ضد الشعب قد زادت على الشهر، وقاربت عشر سنوات فلأنهم أرادوها طويلة، طالما الزعم أنهم تمكنوا من القضاء أيضاً على الإرهاب. وإذا كانت ذيولها ملايين الشهداء والمعوقين والمعتقلين والمفقودين، والذين خرجوا من البلاد في انتظار العودة، فهذا يشهد على انتصار النظام الذي أنجز مأثرة حققت الانسجام لما تبقى من السوريين، لن يكتمل حقيقة إلا بعد تصفية جميع الذين شاركوا في الثورة.

يروي المؤرخ اليوناني هيرودوت أن الملك كروسوس ملك “ليديا” أخذ مشورة كاهنة الوحي في “دلفي”، قبل الشروع في حربه ضد سيرُس (قورش) ملك فارس، فكانت النبوءة:

“إذا ذهب كروسوس ليحارب سيرُس فسوف يدمر مملكة عظيمة”.

ابتهج كروسوس للنبوءة، وقد فهم أنه سيدمر مملكة فارس العظيمة، فزحف بجيشه لقتال سيرُس، لكنه مني بهزيمة ساحقة على يد ملك الفرس. وإذ كتب له البقاء، عاد إلى “دلفي” وشكا مرَّ الشكوى مما لحق به، مع أنه عمل حسب مشورة الوحي. فردت الكاهنة بأن نبوءة “دلفي” كانت صادقة تماماً، إنه بذهابه إلى الحرب دمر مملكة عظيمة، كانت مملكته هو. بالعودة إلى منطوق النبوءة، نلاحظ أنها لم تبين بوضوح أي “مملكة” تلك التي سيلحق بها الدمار، لو كان كروسوس فطنًا، لوجب عليه أن يعود ثانية ليسأل الكاهنة أي مملكة تعني؟

وهكذا أوصلت نبوءة الأجهزة الأمنية والإيرانيين النظام إلى درك تدمير سوريا وتمزيقها، حتى أنه لم يعد يملك أمره، بات محتلاً، والبلد كلها تحت سيطرة أربع دول. لن يخفي النظام الأزمة العالق فيها، وأن النبوءة خدعته. لو أنه سألهم ماذا يقصدون؟ فالجواب، مجرد أن الأزمة زادت عن الشهر، ما أوقعه في فخ العشر سنوات، ومن دون نهاية لهذه الحرب. ولو كان يمتلك شيئاً من الفطنة، لرحل قبل لا أقل من تسع سنوات. حالياً، حسب ظن حملة النوايا الطيبة، سيضع مؤتمر اللاجئين فصلاً ختامياً لهذه الأزمة المستعصية، عنوانها المساومة على العودة بحيث لا عودة، فالنظام لا يرغب بعودة أحد، ولو كان الروس يريدون.

على أرض الواقع، لم يزد المؤتمر عن مهزلة، فالحرب التي خلفت ما يزيد عن عشرة ملايين لاجئ ونازح. كان المؤتمرون أنفسهم السبب في تشريدهم عن بيوتهم وأراضيهم، لم يضع حداً لإنهاء مأساتهم، ولا أملاً لحلحلتها، ما يريده المؤتمر هو المتاجرة بهم، فتمويل الإعمار كان الهدف الذي سعت إليه روسيا من وراء عقده. وإذا أراد النظام والروس والإيرانيون عودة اللاجئين فعلاً، فالشرط تلقي النظام المساعدات المالية والعينية، التي يتسلمونها من الدول والمنظمات المضيفة، أي أن تبقى سارية وتحويلها الى الداخل السوري أي للنظام، ليتولى حسب زعمه عمليات الإيواء والتوزيع والتعمير، وذلك يعتمد على أمانة نظام لا يوثق به على الإطلاق.

كانت الخطب السقيمة التي ألقيت في المؤتمر الدليل على هذا التوجه الجشع، تخلو من أي ذرة إنسانية، مع أنها كلمة “إنسانية” طفحت من الخطابات، حتى بدت وكأنها أداة تعذيب إضافية، تذكر بمعتقلات النظام. فرأس النظام تبرّأ من أي مسؤولية عن مشكلة اللاجئين وألقاها على العقوبات الأمريكية والتدخلات التركية، ولم ينس رعايتهما للإرهاب، بينما الروسي لافروف اتهم الدول الغربية، وحملها مسؤولية معاناة اللاجئين وتسييس قضيتهم، بيد أن إيران ستتهم بلدان اللجوء بعرقلة عودة اللاجئين لأسباب سياسية. مع أنهم جميعاً يعرفون أن العراقيل الغربية لعودة اللاجئين حسب الاتحاد الأوروبي هي: التجنيد الإجباري والاعتقال العشوائي والاختفاء القسري والتعذيب والعنف الجسدي والجنسي، والتمييز للحصول على مسكن وأرض وملكية، وغياب الخدمات الأساسية، لا سيما أن تجربة بدعة المصالحات التي رعاها الروس فشلت، وستبقى فاشلة ما دام النظام يسعى إلى تخريبها بتصفية المقاتلين الذين كانوا طرفاً فيها.

نداء العودة، كذبة لا يصدّقها أحد، لا اللاجئون ولا الدول المنظمة للمؤتمر، التي تعرف أكثر من غيرها حجم الضائقة الاقتصادية والمعيشية التي يرزح السوريون تحت وطأتها، ولا يستطيع النظام السيطرة على عدم تدهورها نحو المزيد من القاع، عندما تصبح المعاناة من كل شيء، ويمكن رصدها من طوابير الخبز والوقود وفقدان الدواء وندرة الغاز والكهرباء، وأزمة المواصلات، وانخفاض العملة والغلاء اليومي. لو أن لدى النظام القدرة على التخفيف من هذا العناء على السوريين في الداخل، كانت اكتسبت دعواه شيئا من المصداقية.

عودة السوريين إلى أراضيهم وحقولهم وأعمالهم وبيوتهم، لا تخضع لأي مساومة، أو تفاوض، أو تنازل، ولا هي مكرمة من رئيس أو نظام، ولا ترتبط بخطوط حمراء ولا خضراء، أو بموافقات أمنية وسياسية، بل هي حق من حقوق الإنسان، لا يمنعها أحد، إذ لا سلطة تخول نظاماً حق المنع، لأن أي نظام في العالم يستمد شرعيته من تأدية المواطنين حقوقهم غير منقوصة. وإذا كان مؤتمر اللاجئين وضع نهاية لمحاولة ولدت ميتة، فقد وضع أيضاً البداية لإفلاسات جديدة.

عموماً، الرد لم يتأخر على وسائل التواصل الاجتماعي، بإطلاق “هاشتاج”: العودة تبدأ برحيل الأسد.