أصابت العالم الغافل عدّةُ أحوال طوال الشهور الستة الماضية، إثر عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر. كان الذهول للوهلة الأُولى ردّةَ الفعل عليها؛ فالعالم اعتقد أنّ المقاومة الفلسطينية لا تزيد عن بؤر متفرّقة آخذة في التمزّق والذبول، محاصرة بأشقّائها العرب من الدول الراغبة في السلامة، طلباً للازدهار والتقدّم واللحاق بركب العالم التكنولوجي المتقدّم، ما أدّى إلى افتعال قطيعة فعّالة مع النضال الفلسطيني بتصنيفه على أنه إرهاب لا مقاومة، فالمقاومة السلمية، كما أصبحت معتمَدة لا تحمل السلاح، ولا حتى الحجارة، أو التلويح بالعلم الفلسطيني. انتهى زمن حركات التحرُّر نتاج ديكتاتوريات تابعة للروس، استفحلت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي إلى ديكتاتوريات شرعية بإشراف أميركي ورضى إسرائيلي.
بلغ تعاطُف “العالم الحرّ” مع “إسرائيل” أنّ رعاتها الغربيّين، أميركا وبريطانيا، لم يتخلّصا ممّا اعتراهما من ذهول إلّا بالمسارعة إلى غضّ النظر عن محو غزّة من الخريطة، ولا يلزم أكثر من تزويد “إسرائيل” بالسلاح والذخيرة والمتطوّعين والخبرات بأطنان تكفي للقضاء على العرب وإيران معاً، إن استلزمت الحرب ذلك، غير أنّ العرب وإيران أكدّوا ألّا علاقة لهم بالذين صنعوا هذا الـ”أكتوبر”، ولا كانوا وراءه، ولا علم لهم به، فوجئوا به مثل الجميع.
هذا الحدث، وما نجم عنه، شكّل صدمات متوالية للغرب، لن يتمكّن من إخفائها، وكلّما جاءت صدمة لا تحلّ محلّها صدمة بقدر ما تتراكم فوقها. فالمقاومة الفلسطينية، التي لا تزيد عن فصائل مسلّحة، شنّت حرباً تُعدّ محض خيال من فرط إنجازاتها العسكرية الخاطفة، واستطاعت الصمود أمام قوّة عاتية مسلّحة بأسلحة ثقيلة وبتكنولوجيا متطوّرة، وأن تخوض حرب عصابات وأنفاق ضدّ جيش بلغت به الهيستريا ممّا أصابه وأصاب سمعته من خسائر أنّ التعويض عنها، كان في حرق الأخضر واليابس، ونشر الدمار في هدف لا يقلّ عن تسوية غزّة بالأرض، وعدم استثناء المستشفيات والمساجد والمؤسّسات المدنية، وقصف طاول عائلات بكاملها، استهدف الأطفال والنساء، بلغ من فظاعته محاولة التستّر على وحشيته باصطناع الدفاع عن النفس، آزرها الغرب ووصفها بأنّها ضدّ الإرهاب، وعمل على طمس جرائمها في الصحافة، بتقييد استخدام مصطلحات “الإبادة الجماعية” و”التطهير العرقي” و”الفصل العنصري”، واستخدام “مذبحة” و”مجزرة” لما حاق بالإسرائيليّين الذين قُتلوا في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وحجبها عن عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين الذين قُتلوا في غزة.
فلسطين ليست أرضاً متنازَعاً عليها، بل بلدٌ محتلّ
لم يكن ما تلاها من صدمات إلّا ظهور دعوات لم تذعن للرواية الإسرائيلية، وتنحو إلى نزع المصداقية الكاملة عن ادعاءات الإسرائيليين، وما انتهجته الصحافة الغربية طوال عقود في إنكار أحقّية القضية الفلسطينية، وتشكّك في القناعات المطلقة حول وجود “إسرائيل” بالذات، وما يُدعى بـ”أرض إسرائيل التاريخية”، واكتشاف أن الفلسطينيين ليسوا دخلاء، بل أصحاب الأرض، والإسرائيليّين مغتصبون بدعاوى دينية متلاعَب بها.
ما أعاد القضية الفلسطينية في العالم إلى المربّع الأوّل، إلى وعد بلفور وما استجرّه من تهجير واستيطان لبلد مأهول، وما ارتكبته العصابات الإسرائيلية من مجازر. وإدراك أنّ “إسرائيل” دولة احتلال، وليست كما روّجت وروّج الغرب عنها، بلداً ديمقراطياً يحيط به بحر من العداء العربي، يعمل على رمي اليهود في البحر.
السردية الإسرائيلية لم تنسحب تماماً من التداول، لكن كان في وصف “إسرائيل” بأنّها صناعة غربية حسب نمط استعماري، ما خلخل النظر إليها على أنّها الضحية، وتقييم نشأتها بعيداً عن الهولوكوست النازي الذي تاجرت به وما تزال، وإمعان النظر إلى الهولوكوست الإسرائيلي الذي ظهرت مفاعيله في غزّة منذ تشرين الأوّل/أكتوبر وحتى الآن، بأفعال مورست فيها حرب إبادة، لم تخطئها محكمة العدل الدولية.
اليوم، تتخبّط “إسرائيل” في حربها على غزّة، بينما الغرب يحاول الدفاع عن روابطه المصطنَعة مع الدولة العبرية، ضدّ معارضة تتّسع في الغرب نفسه من الناشطين الجامعيّين الشبّان والمفكّرين والمثقّفين والأدباء والفنّانين الكبار والمنظّمات الإنسانية.
ليست المشكلة مع “إسرائيل” فقط، المشكلة أيضاً مع حكومات تتشبّث بمواقفها لا تعرف كيف تغادر مواقع ترسّخت فيها، عاجزة عن إجراء تحوّلات هي اعتراف بتاريخ مؤلم جرّ نكبات، بينما كلُّ ما تفعله التظاهر بمواقف إنسانية، لا تعدو أكثر من ذلك النفاق والرياء اللذين ابتُليت بهما سياسات ما زالت أسيرة ماضٍ كان من نتاج جرائم الرجل الأبيض.
فلسطين ليست قضية انتهت، إنّها قضية مستمرّة. فلسطين ليست أرضاً متنازَعاً عليها، إنّها بلد محتلّ، ولا المقاومة إرهاب، بل حركة تحرُّر وطني.
-
المصدر :
- العربي الجديد