قد تضع الحرب على غزّة العالَمَ على حافّة حرب عالمية ثالثة. هذا ما يشاع، وما تُوحي به الأحداث المتسارعة، بعدما أظهر العالم الغربي خلال الأيام الماضية تأييده الكامل لـ”إسرائيل”، باستنفار أوروبا وعلى رأسها الأميركيّون؛ فالتعليمات الواردة من الرئيس الأميركي بايدن، تملي عليهم التحالف ضدّ “حماس”، أي غزّة، أي الفلسطينيّين، أي العرب، أي المسلمين… اختصاراً “الإرهاب”. وذلك في الردّ على الحرب التي شنّتها غزّة ليس ضدّ “إسرائيل” فقط، بل ضدّ “العالم الديمقراطي” أيضاً… الديمقراطيات تدافع عن نفسها.

يُحرّض هذا التحالفُ العسكري “إسرائيل” على التصرُّف بمنتهى الهمجية، ليس بالقول وإنّما بالفعل، فالعمل على تزويدها بكُلّ ما قد ينقصها من سلاح ومُعدّات مع مليارات الدولارات، مدعَّمة بالبوارج والطائرات والمتطوّعين… لشن حرب عشوائية ليس أقل من تدمير غزّة وقتل الأهالي. هذا هو العالَم الحُر عندما يتصرّف بديمقراطية ومسؤولية، لم يحظ بمثله سوى زيلينسكي، فحرب “حماس” على “إسرائيل” لا يماثلها إلّا حرب روسيا على أوكرانيا.

كانت فُرصةً لإبلاغ العالم قاطبةً أنّ أيّ بلد يقف ضدّ “إسرائيل”، أو حتّى يُوجّه إليها انتقاداً، سوف يُنظَر إليه بعين العداء، وقد يناله ما ينال الفلسطينيّين. أمّا العرب، فعليهم إدانة المقاوَمة لا الوقوف على الحياد، فما بالنا بتأييدها. وإذا أرادوا الإسهام بشيء، فالعمل على التوسُّط لتحرير الأسرى، ثمّ الصمت البليغ على المجزرة الكبرى التي بدأت.

خطابٌ غربي يُحرّض الاحتلالَ على التصرّف بمنتهى الهمجية

هذا ما سَمح لقادة “إسرائيل” بالتكلُّم بنبرة استعلائية لا تنقصهم، بعدما تمرّغوا في وحل الهزيمة، ماذا لو كانوا منتصرين؟ يقف الغرب في الخندق الإسرائيلي، مستعيداً اللهجة الإمبراطورية من الحقبة الاستعمارية، تلك كانت ذكرياته السعيدة، تشدّ عزمه في الدفاع عن “إسرائيل” التي صنعها.

المبالغة الاستعراضية للغرب، ليست “إسرائيل” بحاجة إليها إلّا لتَظهر بمَظهر الضحية، مع أنّها أقوى دولة عسكرياً في “الشرق الأوسط”، وواحدة من أكثر بلدان العالم تسليحاً وتقدُّماً علمياً وتكنولوجياً، عدا عن تلك الرفاهية التي يتمتّع بها مستوطنوها على حساب الهولوكوست، الذي لم يكن العرب مسؤولين عنه ولم يشاركوا فيه، لكن الغرب ارتأى تعويض اليهود بانتزاع أرض فلسطين ومنحها لهم، ولم تكن مجازر الأرغون وشتيرن وغيرها إلّا الأداء الإرهابي المماثل للقوّة الاستعمارية، حاز على رضا الغرب، وكان التعبيرَ المثالي عن الشعور بالذنب تجاه “إسرائيل”.

كي نفهم هذا الاستعراض السريالي، في التحشيد الهائل ضد غزّة، فهو إذا كان ضدّ الفلسطينيّين فليُذبحوا ويُهجَّروا فقط، المقصود منه ردع إيران و”حزب الله” والنظام السوري عن أية مغامرة استعراضية جهادية، خاصّة أنّهم سيرون كيف سيدفع الفلسطينيون ثمن “طوفان الأقصى”، دونما رحمة. هذه المرّة ضدّ ما سيُدعى بالإرهاب الفلسطيني. ولن يكون أكثر من درس للإيرانيّين وموت للفلسطينيّين.

ما يُعبّر عن انحطاط الغرب عندما تكون قيمه ذريعة للنفاق

لن يُقدَّم تحالُف الممانعة والمقاومة على هذه المغامرة. إنّ جيوشهم ومليشياتهم مخصَّصة لقتل شعوبهم. تكَبَّد السوريون أكثر من مليون شهيد عدا المعوقين والمعتقلين وتهجير سبعة ملايين، ودمار شمل مدناً وقرىً وأريافاً، وأربع احتلالات، وتمزيق سورية، وحرب لم تنته بعد… كلُّ هذا استعداداً لخوض حلف الممانعة والمقاومة حرب تحرير القدس… وجاء الوقت وأنجز الفلسطينيون انتصاراً عظيماً على الإسرائيليين، ما الذي فعله الملالي و”حزب الله” الذين قتلوا الشعب السوري بكلّ سخاء ووحشية؟

الكارثة السورية قبض الأسد ثمنها البقاء في السلطة، مقابل تمدُّد المشروع الإيراني في الهيمنة على المنطقة، عدا عن التغلغل في النسيج السوري ومحاولات تشويهه. وإيجاد أكثر من موطئ قدم للروس في سورية من قواعد عسكرية واستثمارات. طبعاً لا ننسى أنّ الغرب نفسَه هو الذي سمح لإيران وروسيا بالدخول إلى سورية، وما زالت نتائج هذه الجريمة تطاول السوريّين حتى الآن؛ حالياً تُقصف إدلب بالطائرات الروسية، الغرب نفسه الذي منع ولا يزال مضادّات الطيران عن السوريّين.

غزّة وحيدة، ولا يُرجى من تحالف المقاوَمة والممانَعة أكثر من بعض المناوشات والكثير من الجعير. كما لا يُرجى من روسيا سوى التصريحات، يُطلقها بوتين ساخراً من تسيير البوارج للدفاع عن “إسرائيل” وتدمير غزّة، فهو مشغول بأوكرانيا، وربما تبرّع بـ”فيتو” في مجلس الأمن ومعه الصين التي لن تتورّط في قضية لا تعنيها. أمّا حكومات العالم فلديها ما تُفكّر فيه، حول متاعبها الاقتصادية.

ستُترَك غزة لمصيرها، ولن تقف معها سوى شعوب العالم، الشعوب فقط. لذلك بدأت فرنسا ومعها بريطانيا وألمانيا بتقييد المظاهرات ومنعها، مع إجراءات تنال من يخالف تعليماتهم بالطرد من العمل أو من البلاد. هستيريا جماعية ضدّ هؤلاء الذين طلبوا الحرية ولم يرضخوا للاحتلال.

إذا أراد الغرب اليوم، جادّاً، استغلال وجوده في “الشرق الأوسط”، فلديه ما يفعله لإحلال السلام، بدلاً من المساعدة على قصف الفلسطينيّين وقتلهم وتهجيرهم، وذلك بوضع حدّ لتلك السلسلة الطويلة من تجاهل الحلول السياسية، الأميركيّون معنيّون بها كرعاة لـ”إسرائيل”. إنّ السبب الرئيس لتفاقم المأساة الفلسطينية هو التهرُّب الدائم من معالجة أزمة استفحلت إلى أزمات إنسانية اقتصادية وحياتية ومعيشية، على مدى خمسة وسبعين عاماً، هدّدت حياة وبقاء الفلسطينيّين باستمرار. لن يكون غطاء لها الهرولة لعقد صفقات التطبيع مع البلدان العربية، طالما أنّ المشكلة الأساسية وبالدرجة الأولى مع الفلسطينيّين، لن يكون التطبيع سوى خدعة يُبتغى منها المزيد من الضغوط على السُّلطة الفلسطينية لتقديم التنازلات تلو التنازلات لعدوّ جشع، لا يبغي السلام، وإنما قضم الأراضي.

يَدّعي الغربُ أنّ محادثات السلام كانت على وشك أن تبدأ، ووعد بالضغط على الإسرائيليّين لتقديم تنازلات للسُّلطة الفلسطينية، لكن “كتائب القسام” أضاعت هذه الفرصة. يتكلّم الغرب بالوعود دائماً ولا يُنفّذها، لأنّ الفلسطينيّين لا وزن لهُم في حساباته، وذلك نابعٌ من تقديرات تتّسم بالحكمة، حكمة نتاج عقلانية بغيضة وسامّة ومنحازة. بلغ بها النفاق مؤخَّراً حدّ الإسفاف بما تَشدَّق به رؤساء دول ورؤساء حكومات وسياسيّون ووسائل إعلام روّجوا لأكاذيب، انحدرت بهم إلى الدرك الأسفل، طالما أنّهم يستمدّونها من أكاذيب “إسرائيل”، ويبالغون فيها. ما يُعبّر عن انحطاط الغرب، عندما لا تكون قيمهم إلّا ذريعة للنفاق.

لا يحتاج ما فعلته “كتائب القسام” إلى تفسير مُعقَّد، ببساطة في ظلّ حصار غزّة، لم تدع لهم “إسرائيل” إلّا هذا السبيل. كذلك الجنون الإسرائيلي لا يحتاج إلى تفسير معقَّد، ببساطة كان ردّ فعلهم على ما تَحقَّق من انتصار كان مُذهلاً وأشبه بالمعجزة، مُهيناً لغطرستهم السقيمة.

في القضية الفلسطينية، ليس للعدالة سوى معنىً واحد، أن يكون للشعب الفلسطيني الحقُّ في الحياة والحرية للعيش على أرضه.