تبدو صورة العالم قاتمةً، أضاف “كورونا” المرضَ والموت إلى الفساد المستشري على جميع المستويات، يشمل رؤساء وقادة وحكومات وأجهزة أمن وشرطة. الصورة مرعبة عندما تنطلق الشاحنات من المستشفيات محمَّلة بالجثث إلى المقبرة الجماعية أو المحرقة، لا يصحبها أهالي الضحايا، لا بكاء أو نحيب، ولا آيات قرآنية أو تراتيل كنسية، يُدفن الضحايا بأكياس سوداء، في أرض غريبة، بلا وداع أو تعزية، ولا عزاء… حرب غامضة شُنت على عالم يجهل ما ينتظره.
إذا أردنا رؤية العالم بهذه الصورة المتشائمة، والبقاء مكتوفي الأيدي، فالعالم في طريقه إلى التحلّل من شدّة الخوف. هذه الصورة حقيقية؛ البشرية مهدَّدة، لكن يجب ألّا تعمينا عن الإنسانية التي تدافع عن البقاء بأكثر الوسائل إنسانيةً. نادراً في تاريخ البشرية، ما أحسّ البشر بإنسانيتهم على الرغم من تنوُّع جنسياتهم وبلدانهم، وما يفصلهم من مسافات. وإذا كانوا قد تكاتفوا دفاعاً عن الحياة، فلم يتوانوا عن تكريس جهودهم إلى حد التضحية بالنفس لإنقاذ أشخاص لا يعرفونهم… إنه نداء الإنسانية يسطع في العالم.
الأكثر دلالة على الاستجابة لهذا النداء الإنساني تحرُّك آلاف الأطبّاء لمعالجة ضحايا الكورونا، ولم يكن العمل بلا مخاطر في مستشفيات تعجّ بالمرضى، وقابلة لنقل العدوى، فسقط الكثيرون منهم، كان من بينهم أطبّاء عرب لاقوا حتفهم في مستشفيات أميركية وبريطانية وإيطالية. الطبُّ مثل المرض لا جنسية له، برهن عليها أكثر من مائتي طبيب كوبي شجاع توجّهوا إلى جنوب أفريقيا لمواجهة الوباء. هؤلاء الأطباء جزء من جيش الأطباء العالمي، غادروا بلدانهم وتركوا عائلاتهم لمساعدة البلدان التي تحتاج إلى مساندة طبية.
” يصعب أن نشهد معجزة في سورية، إنها وحيدة ولا أحد يساندها”
وسقط أيضاً الكثير من جيوش العاملين في المستشفيات، من ممرّضين وممرّضات، وعلماء في مراكز الأبحاث، وأعدادٌ لا يُستهان بها من المتطوّعين كانوا من المقاتلين على خطوط التماس مع “كورونا”، لم يشمئزّوا من القيام بأي عمل، من بينهم لاجئون، كسوري شاب اسمه حسان عقّاد، وهو مصوّر سينمائي أخرج عدة أفلام قصيرة ونال جائزة الأكاديمية البريطانية “بافتا”.
تطوّع عامل تنظيفات في أحد المستشفيات في لندن عاصمة وطنه البديل، وكان حريصاً على تقديم ما يضمن لهؤلاء الذين يعيش بينهم قدراً من الأمان افتقده في بلده الأصلي، حيث عُذّب وطورد وسُجن مرّتين. لم يُقصّر عندما وجّه رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني، من خلال فيديو استغرق أقل من دقيقتين، انتقده على قرارٍ منح فيه الأطباء الإقامة الدائمة، وحجبها عن العاملين بالتنظيفات، ما اضطر الوزارة إلى تعديله بقرار يشمل جميع العاملين بالمشافي، خلال خمس ساعات.
كما أسهم ناس عاديون في عزلتهم بمساعدة بشر محتاجين للطعام؛ ففي بنغالور بالهند، انتشرت مطاعم صغيرة، يحضر فيها متطوّعون وجبات غذائية طازجة لعشرة آلاف محتاج يومياً بلا أي مقابل. لم تقتصر على بنغالور وحدها، ولا الهند، طاولت مختلف بلدان العالم. بينما في نابولي بإيطاليا اتخذت المساعدة إعداد “سلّات غذائية” تحتوى على طعام وخضار وفواكه، تتدلّى من الشرفات للعابرين، أو توضع على أرصفة الشوارع وطرقات السفر لسائقي الشاحنات. الظاهرةٌ تعدّت نابولي إلى العالم كلّه، وصار الناس يساعدون جيرانهم وأهاليهم فيؤمّنون لهم المواد الغذائية ويطبخون للمحتاجين”. الصورة مشجّعة، العالم متضامن ومتكافل.
هذا لا يُبعد أنظارنا عن الهامش الأسود، حيث حكومات تتبادل الاتهامات بالمؤامرة، بدلاً من التعاون على إيجاد لقاح وعلاج للوباء، وتستغل الكورونا بالتنافس بينها دعائياً، أمّا عملياً، فالسباق على جني المكاسب.
الهامش الأسود يتّسع في بلدان منطقتنا، ففي سورية، يعيش الأهالي حالة من الترقّب، يخشون أن يعمّ الوباء البلاد، تحت ظلال أسوأ كارثة اقتصادية من الغلاء وهبوط الليرة والفقر والجوع، واشتداد الخلاف بين رؤوس النظام حول تقاسم حصص الأموال المنهوبة، بينما تتجمّع المليشيات مع الجيش لشنّ هجمات على مدينة إدلب التي تضمّ إضافة إلى سكانها نازحين من مختلف المدن والقرى السورية، وطردهم إلى خارج الحدود، رغم أوضاعهم المأساوية.
بالمقارنة، في “كيب تاون”، جرت المصالحات بين جهات متنازعة، بعد سنوات طويلة من الصراعات، وبدأ المتقاتلون العمل معاً لتأمين الطعام للعائلات المحتاجة. حتى أن القسّ أندي ستيل صرح: “ما نشهده اليوم هو معجزة تتحقّق”.
يصعب أن نشهد معجزة في سورية، إنها وحيدة، ولا أحد يساندها، لو توفّرت ضمانة لملايين اللاجئين السوريّين، لعادوا إلى بلدهم، ليساهموا مع غيرهم في إعادة بنائه.
إذا كان للسلام أن يعمّ العالم، فليس بوجود نظام يقتل شعبه منذ ما يزيد عن تسع سنوات، آن لهذا الشعب أن يضمّد جراحه. لا يمكن لهذا العالم أن يكون بريئاً من دون مساندة السوريّين على التخلّص من نظام بات البقعة السوداء في ضمير العالم.
إذا كانت الحكومات فاسدة، فالناس ليسوا سيّئين، ولا العالم مكان سيّئ. نحن الذين نصنع من هذا العالم مكاناً قبيحاً أو جميلاً. لكن لا جمال من دون عدالة، ولا جمال مع البؤس.
-
المصدر :
- العربي الجديد