اللحظة التاريخية البارزة في السجال بين الدِّين والعِلم، كانت في العام 1633 للميلاد، عندما مثُل غاليليو (1564 – 1642) أمام محكمة التفتيش بتهمة الهرطقة؛ لإيمانه بعقيدة زائفة تقول إن الشمس مركز العالم. مع أنه أُدين عام 1616م، وأنذر بالتخلّي عن هذه العقيدة، وعدم تعليمها للآخرين، وإذا لم يرضخ لهذا الإنذار، سيتعرّض للمحاكمة. بعد نحو عقدين وجدته المحكمة مُذنباً، وحكمت عليه بالسجن، وذلك بالالتزام بالإقامة الجبرية بقية حياته.
ومن شدّة ما كان القرار مُرعِباً لبعض الفلاسفة والعلماء الكبار، أقدم الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 – 1650) على سحب كتابه من المطبعة، عندما سمع بالخبر، وهو الكتاب الذي يؤيّد فيه نظرية كوبرنيكوس (1473 – 1543). في ذلك الوقت لم يُتّهم ديكارت بالجُبن، لا أحد يستطيع مواجهة محاكم التفتيش، فالشجاعة ليست في التهوّر.
لم ينج غاليليو من الحرق أو القتل إلا بعدما تراجع عن موقفه، ونبذ أفكاره ولعنها، ما أنقذه من نهاية جبراردو برونو (1548 – 1600) الذي قُطع لسانه وأُحرق جثمانه، لاعتناقه الكوبرنيكية التي تقول بأن الأرض تابعة للمجموعة الشمسية، وأن الشمس هي مركز الكون، وأن الأرض هي التي تدور حولها، على عكس ما تُوهمنا المظاهر الخادعة عندما نرى الشمس تشرق من الشرق وتغرب في الغرب، ونراها وكأنها تتحرّك بالفعل، ولكنها ثابتة.
لم يحاكم غاليليو مرة واحدة، بل عدة مرات كانت الأخيرة التي اعتبر فيها مهرطقًا، وكانت إثر جدالات صاخبة استمرّت سنوات. ففي الردّ عليه وعلى أتباعه، الذين أخذوا على عاتقهم القول إنه ليس لسلطة النصوص المقدَّسة دورٌ في الجدل حول الظواهر الطبيعية. لم تكن الحجة بدايةً أكثر من أن حركة الأرض أمر غير قابل للتصديق، خاصة أن النص المقدس يناقضها بكلّ وضوح. ففي أمور الدين والأخلاق، لا يمكن للبشر الاعتماد على حكمهم الخاص، وتشويه النصوص المقدسة بما يتوافق مع تصوراتهم الخاصة، وافتراض تفسير يناقض رأي الدين، يعد دليلًا لا على الحقيقة، بل على ضعف المعتقد.
كان أبرز من خاض في هذا النقاش، الكاردينال روبرت بيلارمن (1542 – 1621)، وهو أحد أبرز علماء اللاهوت في التاريخ، لِفضِّ الخلاف بين غاليليو وخصومه. بداية أكّد عدم نيته منع كتاب كوبرنيكوس، لكن على أن تطاوله بعض التعديلات. وكان اقتراحه أن الخيار الأكثر حكمة لغاليليو هو معاملة نظرية مركزية الشمس على أنها مجرد ظاهرة افتراضية، لا كظاهرة موجودة في الواقع. إن اعتمادها كظاهرة واقعية أمر شديد الخطورة، لأنه يؤذي الإيمان، إذ يوصف النص المقدس بالزيف، بينما يجب المضي بكثير من الحذر في تفسير النصوص المقدسة التي تبدو مناقضة؛ وأن نعترف بأننا لا نفهمها بدلًا من القول إنها خاطئة.
لم يجد بيلارمن أي مشكلة في مركزية الشمس طالما كانت طريقة حساب افتراضية بالكامل، وليس ظاهرة طبيعية حقيقية، لكنه لم يسمح بالترويج لها إلا إذا أمكن إثباتها باستخدام المعايير العِلمية الحالية. وضع ذلك غاليليو في موقف صعب، لأنه وجد أن الأدلة الحالية تدعم مركزية الشمس بقوة، ورغب في نشر حججه المنطقية. كانت المشكلة أن أحدًا لا يمكنه الاعتماد على حكمه الخاص في أمور الدين والأخلاق المتعلّقة بالعقيدة، وتشويه النصوص المقدسة بما يتوافق مع تصوراته الخاصة، وافتراض تفسير لها.
لم يجر تحويل القضية إلى المحكمة بسبب النقاشات الحادة، وإنما نتيجة حملة أتباع غاليليو العدائية الهادفة إلى منع إدانة الكوبرنيكية، ما دفع المحاكمين ليقدّموا تقريرهم بالإجماع: “افتراض كون الشمس ثابتة في الكون، أمر تافه وسخيف في الفلسفة، وهرطقة رسمية لأنه يناقض بشكل صريح وفي كثير من المواضع أفكار النص المقدس”.
أما اللحظة التاريخية الثانية، فكانت في عام 1992، بإعلان الكنيسة تبرئة غاليليو: “كان خطأ رجال اللاهوت في ذلك الوقت، عندما أصرّوا على مركزية الأرض، بالاعتقاد أن فهمنا لبنية العالم المادي كانت مبنية، بطريقة ما، على التفسير الحرفي للنص المقدس”.
هذه القضية أصبحت وراءنا منذ عدة قرون، وإذا كانت الكنيسة قد اعترفت بها متأخّرة، فلا يعني أنها استسلمت للعِلم، وإنما وجدت التكييف المقنع في هذا العصر، وإذا عدنا إلى النقاش فقد اتّخذ مفهومه الصحيح منذ البداية، لكن غاليليو الذي لم يُهادن، اضطر حفاظًا على حياته إلى إنكارها. بينما كان الحل لهذا الإشكال ما زال في اعتبار مركزية الشمس ظاهرة افتراضية، أما الواقعي فالأرض التي نقف عليها ثابتة، كذلك في القول إننا لم نفهمها، بدلًا من القول إنها خاطئة. ما يعني أن العِلم اتخذ مسارًا افتراضيًّا، والدين مسارًا غيبيًّا. فكان الخلاف في ذلك الزمن عبثيًّا، تحت تأثيره زرعت محاكم التفتيش الرعب وذهب ضحايا كثر من مفكّرين وعلماء. لكن العلم لا يرحم أيضًا، العلم عندما يصبح حقيقة.
-
المصدر :
- العربي الجديد