بعد نحو أربع سنوات ونصف، بدأت الأزمة السورية، تتسرب إلى أسماع الرأي العام العالمي، مع أن الضجيج رافقها منذ بداياتها الربيعية. باتت نتائجها على أراضيه، تشكل بمرمى أنظاره فاجعة إنسانية صادمة، وكارثة تخترق حدود دول العالم، ومرشحة للامتداد إلى صميم مجتمعاته، فأن تتصدر في ست جرائد في بريطانيا وحدها، صورة لطفل ايلان كردي (3 سنوات) ميتاً، في اليوم التالي لاكتشاف جثته على رمال شاطئ بودروم على بحر ايجه. بدا أكثر من اعتراف بالتقصير الأوربي تجاه الموت السوري، كان دليلاً على بلادة الغرب.

بدا الطفل مثل أي طفل في العالم، نائم وقد توسد رأسه حضن أمه، لكنه كان طفلاً وحيداً، أمه ليست بجواره. ليس نائماً، بل ميت، جثة على شاطئ، مهجور، لفظه الموج، متوسداً الرمال، غرق مع شقيقه غالب (5 سنوات) ووالدته ريهان، ماتوا جميعهم وهم يحاولون الوصول من تركيا إلى اليونان.

أثارت الصورة غضباً عالمياً حول الثمن الذي يدفعه اللاجئون السوريون بحثاً عن ملاذ آمن. وكان في رد فعل الرأي العام ما قد يشير إلى أنه آن للعالم الشعور بالمسؤولية تجاه ما يجري، وأن تجاهل الجرائم اليومية التي يرتكبها النظام السوري، لهو جريمة ايضاُ. أما إلى متى يدوم هذا الشعور الأوربي بالذنب، فغير مضمون، ربما لأيام أخرى، إذ قبلها كشف عن وجود 71 جثة للاجئين سوريين بينهم نساء وأطفال ماتوا اختناقاً في شاحنة مركونة على الطريق السريع بين هنغاريا والنمسا. إضافة إلى مئات الحوادث التي بات النازحون السوريون معرضين إلى أخطارها في رحلة لجوء مستمرة من بلد إلى بلد. أصبحت حدثا يومياً يقع في أغلب بلدان العالم.

بدلا من التصريحات المتلاحقة سواء التي تعبر عن الشعور بالذنب أو التقصير او الخوف على مسيحية الغرب، أو الكارهين للأجانب السوريين… كان بوسع أمريكا أن توفر على حكومات الغرب وسياسييها دموع التماسيح وأكاذيب التحضر، ونزعات الكراهية، والتفوق وعدم الاعتراف بالآخر، لو أنها منذ بدايات الأزمة لم تدع السوريين لبطش النظام، ومن بعد لم تفوض الروس ومن ورائهم الايرانيين بإيجاد حل للأزمة السورية، وإنما قامت بمسؤولياتها كدولة عظمى واستنهضت الروح الإنسانية في منع القتل، لما كان هناك أناس هجروا بيوتهم المهدمة وغادروا بلادهم بحثا عن الأمان.

إذا أردنا تصور حجم اللجوء الذي يتصاعد من يوم لآخر، فبوسعنا القول حسب المراقبين أنه يصل يومياً إلى أوربا ثلاثة آلاف لاجئ سوري، وهو رقم قابل للزيادة لا للنقصان، فيما إذا استمرت الأزمة السورية على حالها، أي غير مرشحة هي الأخرى للتفاقم. وبالنسبة للضحايا في البحر الأبيض المتوسط في العام الماضي، قضى 3500 شخص غرقاً، وفي هذا العام 2500 شخص قضوا لدى محاولتهم الوصول الى أوروبا مستخدمين قوارب للعبور.

النازحون في محطات القطار، على الطرقات والشوارع، يخوضون البحار بقوارب الموت، ويجتازون الحدود مشياً على الأقدام، ويموتون بالوسائل المتوافرة على طرقات اللجوء، بالرصاص على المعابر غير المرخصة، وغرقاً في البحار، واختناقاً في صناديق الشاحنات، عدا عن تعرضهم للإهانات والاذلال من حرس الحدود والشرطة والجيش، والسلب من قطاع الطرق، والاعتداء عليهم بالضرب من عناصر المنظمات العنصرية النازية المجاهرة بكراهيتها للاجئين، إضافة إلى المتاجرين بالبشر بلا أخلاق أو ضمير، واستغلال المهربين الناشطين على الشواطئ وعبر الحدود داخل الدول الأوربية. عدا عن تعرضهم لضروب من الاحتيال تستنزف منهم آخر ما يملكونه من مال قليل جناية عمرهم. وإذا كان ما يصادفونه وما يقع عليهم يتميز بعدم الشفقة ولا الرحمة ولا بأدنى قدر من الإنسانية، يصادفون أيضاً جماعات وافراد من جميع المستويات تقدر ما يعانيه هؤلاء الهاربون من الموت والطغيان، وتساعدهم في بحثهم عن الأمان، وتدافع عنهم تجاه حكوماتهم والمنظمات العنصرية.

وإذا كان السوريون يشعرون بالأسى مضاعفاً، فلأنهم لم يبخلوا على شعوب جاءتهم لاجئة، فتحوا لهم بيوتهم وأسكنوهم فيها: الشركس (1839) والأرمن (1914) الفلسطينيون الذين يشاركونهم اليوم أيضاً النزوح (1948 + 1967) الكويتيون (1990) اللبنانيون (1996) العراقيون (2003) اللبنانيون ثانية، الشيعة هذه المرة، من سخرية القدر والسياسة معاً (2006). ودائماً عومل اللاجئون دونما تمييز في امن الحكومات الوطنية، وفتح لهم الشعب السوري بيوتهم. بينما فتح لهم نظام البعث القومي العروبي أبواب معتقلاته أسوة بشعبه.

المأساة السورية لم تعد مأساة محلية، ولا تعني فقط الدول الإقليمية المجاورة، إنها مأساة تهم العالم أجمع، وضحاياها اليوم مآس متحركة تشهد على ما أصاب السوريين من كوارث لم تترك لهم مكان يأوون إليه، وإذا كانوا يشقون الدروب إلى خارج بلدهم، فهرباً من البراميل المتفجرة بالدرجة الأولى والوباء الداعشي، سعياً إلى العيش بكرامة.

كل ما توصلت إليه أوربا على المستوى الحكومي حتى الان هو “الدعوة إلى اعتماد استراتيجية واضحة للتعامل مع هذه الأزمة تخلص الى استيعاب عادل للاجئين في عموم الدول الاوروبية بدل سياسات فردية لكل دولة على حدة”.

شأن كل النزاعات التي تسببت بموجات هجرة ودفعت الناس الى المجازفة بحياتهم هربا من الحروب، يبقى الحل النهائي لهذه الأزمة حلا سياسيا شاملا. هذا إذا استطاع العالم نزع القضية السورية من رعاية دولتين هما السبب الرئيس في استمرار تفاقم الأزمة السورية وهما إيران وروسيا، وأن تكف أمريكا عن تجاهل ما أسهمت فيه حتى اليوم في مأساة السوريين بانتهاجها سياسة عدم التدخل بينما هي تتدخل فعلاً في إطالة الأزمة لا انهائها.

ليس أن الأزمة السورية عصية على الحل، وإنما مصالح الدول تجعلها عصية. وإذا كان هناك من حل فعلي، فليس في يد إيران ولا روسيا، مصالحهما مقتلة للسورين، وفي هذا جريمة قصوى. الحل في سوريا، والسوريون أنفسهم يعرفون أن مأساتهم هي الطغيان، وأجهزة القمع والاستهتار بكرامة البشر وحرياتها، وإذا كان من مساعدة، فليقم المجتمع الدولي جاداً بواجباته الإنسانية بدلاً من بيانات النفاق والرياء.