تخيّلَ جورج أورويل في عام 1948 عالماً سيحلّ بعد سنوات حدّدها بعام 1984، بناءً على حقائق واقعية. طبعاً الزمن ليس دقيقاً ولا مهمّاً، إن كان سيحدث في العام نفسه أو بعده وربما قبله، لكنّه بشّر به، وحذّر منه. لم يكن مجرّد إلهام، كان النظام الستاليني والأنظمة الرأسمالية يزوّدانه برؤيته المستقبلية.
لم يكن يتنبّأ. كان يرى، ولم يكن ما يراه يحتاج إلى الكثير من الخيال. فالعالَم الذي انقسم إلى كتلتَين مُتنازعتين بعد الحرب العالمية الثانية، بدا مُقبلاً على التصلّب والتحجّر، وربما على حربٍ ثالثة، لكن ليس قبل الاستعداد لها، فكان التمهيد لها بحرب باردة، استغلّتها في تجييش بلدانها بالأسلحة النووية، ما أنتج معادلة أدّت إلى تبادُل الرعب، وسوف تبقى البشرية مهدَّدة بها إلى ما بعد الآن.
كانت روايته يوتوبيا سوداء، عن عالم مُراقَب حتى العظم، بالِغ الكآبة والخوف، تتلامح في عيون بشر يغلب عليهم القنوط، يحكمه زعيم أوحد: الأخ الأكبر، محجوب عن الأنظار، لا يتجسّد، تُمثّله سلطة الحزب المُطلقة. لا رأي ولا تفكير، الأخ الأكبر يفكّر عن الجميع، يتّهم كلّ من يتجرَّأ على إعمال ذهنه بارتكاب “جريمة التفكير”، والعقاب بالتعذيب في الغرفة رقم 101.
رسَّخ الخصوم عداواتهم بالأيديولوجيات المتناحرة، كانت أفضل وسيلة مخادعة لاستلحاق الدول بهم، وتشكيل ديكتاتوريات تأتيها التعليمات من الكرملين أو البيت الأبيض، تعليمات كانت أوامر، لا يوثق إلّا بالطغاة، الشعوب لا يوثق بها، سرعان ما تنتفض ضدّ الأجنبي، لا يسوسها سوى قادتها المحليّين. كانوا الأشدّ قسوةً على أبناء جلدتهم، يمارسون عليهم الكذب والتعذيب، بمساعدة طاقم من الجلّادين لزوم القتل، والمثقّفين لزوم الدعاية والإعلام، يعملون على إقناع الشعب بأنّهم يتمتّعون بما حُرمت منه الشعوب الرأسمالية من المبادئ والنضال؛ وبما تفتقد إليه الشعوب الاشتراكية من الوفرة والتسالي.
تذهب الرواية مرغَمةً إلى ذلك الكابوس الذي يعيشه البشر
الشعوب التي تحرّرت من الاستعمار، لم تتحرّر من كابوس الطغيان، إذا أردنا بيان ما تتعرّض له من معاناة، فليس بوسعنا قياس درجاته، لكنْ يُمكن تصوُّره. إنه الاذلال، ولنتخيّل البسطار العسكري يسحق وجه إنسان، وإلى الأبد دائماً، بينما الرؤساء خالدون رغم تساقطهم الواحد بعد الآخر، لكن هناك من يتوارث هذه التركة الثقيلة والبغيضة، سحقَ البشر، وما دوام هذه الوراثة إلّا لأن الدول الكبرى بحاجة إليهم.
ليس هناك طاغية إلّا ويتصوّر أنّ حكمه سوف يستمرّ، لا أقلّ من الأبد. فالخلود يُلازمه وذرّيته، بينما يُلازم الشعوب بسطار العسكر. ولن يزيد المستقبل عن ذلك القمع المتواصل، متعدّد الأشكال والألوان، يرافق الناس من المهد إلى اللحد، مع تردّي أحوالها، حتّى إنّ الطقس يصبح سيّئاً، والطعام كريهاً، والوحل يملأ الطرقات، والغلاء في ارتفاع، والبرد القارس يتخلّل العظام، بينما الانتظار ما هو إلّا انتظار الموت.
ما المستقبل؟ يمكن استدعاؤه من الذاكرة، فقد تكرّر مراراً، في البلدان ذاتها؛ الاشتراكيات الأوروبية، وبلدان أميركا اللاتينية، وبلداننا العربية، والعديد من بلدان العالم الثالث. إذ لم تدعهم الدول الكبرى يصنعون أقدارهم، وهي الدول نفسها دائمة العضوية في مجلس الأمن، التي صنعت الحروب ولم تصنع السلام. وغالباً ما طوّرت صناعة عدم الأمان في العالم بإنتاج الأسلحة، وتصنع معها عملاء لها يقتلون شعوبهم لحساب مشغليهم.
لم تخرج حالة العالم عن دائرة رواية “1984”. كابوسٌ هذا بعض جوانبه. الرواية سلاح، لا تقتصر على وجهة محدّدة، بل ترحل في جميع الاتجاهات، إلى الواقع الذي نعيشُه، والماضي الذي لم نعِشه، والمستقبل الذي سنذهب إليه، وقد لا نصل. وإلى تلك الأعماق السحيقة في داخلنا، التي لا ندري بوجودها، أو نعرفها ولا نعترف بها، والتي نتجنّبها ونخاف منها. وللروائي الحرية المُطلقة في تحديد الطريق، وربّما الطُّرق التي سيجتازها ويطرق أبوابها، فتذهب الرواية، مُرغمةً غير مخيّرة، إلى ذلك الكابوس الذي يعيشه البشر، وتحذّر من كوابيس تربض في المستقبل، وتلوحُ تلك السعادة المفتقَدة دائماً.
-
المصدر :
- العربي الجديد