تعدّى فعل الرقابة منع الكتب إلى حرقها، ففي العهد النازي أمر هتلر بحرق الآلاف من مؤلّفات الكُتّاب الذين لا يؤيّدون النازية بصرف النظر عن موضوعاتها، وكان من بينهم توماس مان وسيغموند فرويد وبروتولد بريخت وأريك ماريا ريمارك، استعادةً لأزمنة محاكم التفتيش في العصور الوسطى، حينما كانت الكتب تُحرَق مع متمرّدي الفكر، بدعوى الإلحاد والسحر.

لم يقتصر المنع على الكلمة، بل وطاول السينما، ففي ألمانيا النازية مُنعت أفلام التعبيريّين الألمان، فهاجر فريتز لانج وغيره إلى أميركا وأوروبا. بينما في إسبانيا رفض الجنرال فرانكو عرض لوحة بيكاسو “غورنيكا”، وفي العصر الحالي، فجّرت “طالبان” تماثيل بوذا، وقام “داعش” بتخريب آثار تدمر.

تأخذ السلطة حذرها من الثقافة عموماً، حسب ادعائها، تحسّباً من جموحها غير الآمن، وتهتكها الفضائحي اللامنضبط، على أمل تجديد المحارق المنطوية في التاريخ، وتحاذر في الوقت نفسه ألا تختفي عن منابرها، فالتسلية تتطلّب قدراً من الفن والأدب، وبما أن الحدود بين أنواع المتعة ملتبسة، ولا تخفي ما يبعثه وجودهما من بهجة وجمال، التزمت السلطة بالإبقاء عليهما، لكن مع التحكُّم بهما من خلال اتحادات الكتّاب والفنّانين.

” تأخذ السلطة حذرها من الثقافة عموماً تحسّباً من جموحها غير الآمن”

يقظة الدكتاتوريات الحديثة، وهي عموماً من النوع الرث، جهدت في التواري وراء المظاهر الثقافية، بمحاولات لا تخفي قدراً لا يستهان به من الانحطاط، باستقدام فنّانين، سواء كانوا كباراً أو صغاراً، خليط من المنافقين الجوّالين الباحثين عن الشهرة ومحبّي الظهور، وربما مغرّر ببعضهم، تحت تأثير شعارات وطنية زائفة، يحاولون أن يجدوا موطئ قدم في بلاط أي دكتاتور ذي ماض عسكري يجري تأهيله مدنياً، يستقوي على شعبه بأجهزة المخابرات.

لا يمكن لأي دولة الاعتماد دائماً على استيراد فنّانين من الخارج، لا بد من استنهاض قدرات الإنتاج المحلّي، بتصنيع فنٍّ موالٍ ومطواع، كما في الحالة السورية قبل عقود، والتي أثبتت نجاحها بإنتاج فن ثورجي مسلّ، ممانع ومقاوم، مطبّل وجعجاع. خلال سنوات الحرب، برزت الحاجة إلى هذا النموذج وما يزيد عنه، فكان تشكيل كتائب الفنّانين الموالين، على نمط المليشيات المسلحة، وكان مدجّجاً بالبنادق والمسدّسات، إضافة إلى النفاق والرياء والفجور والادعاء، على أن يعيد إنتاج التجارب السابقة التي أضحكت الناس عقوداً، ما ينفّس عن غضب الشعب وضيقه وفقره وتمرّده وتعاسته وقهره.

ليست الرقابة في جوهرها سوى دفاع عن اللاشرعية في القمع، ترصد أي حراك ولو كان على الورق، أو على خشبة مسرح، أو شاشة سينما وتلفزيون، وتسحق كل مطالبة بالحقوق تولد مع البشر، منحها الله لهم، ولا يجوز لأية سلطة انتزاعها منهم تحت أي سبب.

تجهل الأنظمة الشمولية أن المجال الوحيد للفن الرفيع والأدب العظيم هو البشر، فهي من نسيج الحياة، وجزء لا يتجزّأ من روح الناس. تحرّض الضمائر التي كانت دائماً وراء انتفاضات العدالة، فالمعركة مع الطغيان طويلة، وقد تبدو بلا نهاية، لمجرّد أن الاستبداد عدو الحياة، والبشر خُلقوا أحراراً.