كثيرون ممن أمضوا حياتهم في الثقافة، أخذوا يرفعون الصوت بالشكوى مما يقرأونه، بعدما عسر عليهم فهمه، ما استدعى التساؤل: هل هو غير مفهوم، أم أنَّ كاتبه تقصّد ألّا يُفهَم، أم أنه يكتب ما لا يُفهم، بالأحرى يكتب ما لا يَفهمه؟

أصبح الغموض موضةً ثقافية يتعمّدها بعض الكُتّاب، وخصوصاً الذين بدأوا يشقّون طريقهم في الأدب بنشاط لافت، حتى بدا الغموض جواز مرور مضمون في عالم الأدب، سواء في الشعر أو الرواية والنقد، بعدما قرأوا كافكا وجويس وبيكيت، ومسرحيات يونسكو وأرابال وأداموف، وربما اكتفوا بما قرأوه عنهم. وأدركهم الفضول من فرط ما بالَغ النقّاد في تحنيطهم كمثال للغموض المثير، لم يجلب لهم المال، لكن جلب لهم الشهرة والمجد.

كان من فرط الإقبال على كافكا، أن أصبح هناك عشرات التفاسير والتأويلات لرواياته وقصصه، فالنقد أشبعه بحثاً، وأفرغ النقّاد اجتهاداتهم ومعارفهم وما يتخيّلونه عنه في دراساتهم، فأصبح هناك أكثر من كافكا، ربّما بعدد النقّاد الذين كتبوا عنه، تُضاف إليها المعالجات السينمائية والمسرحية، ما أدى إلى نشوء مكتبة كبيرة عنه، ودائماً في ازدياد.

” لو عاد كافكا، فهل سيتعرف إلى نفسه في ما يُكتَب عنه؟”

كذلك أصاب بيكيت وجويس وفرجينيا وولف والكثيرين غيرهم نصيبٌ جيّد ممّا أصاب كافكا. كان من تداعيات الانهماك في استعراض أفكارهم وأساليبهم. حتى أصبحت عظمةُ أيّ كاتب تُقاس بما يكتنف كتاباته من غموض، ما شجّع على التوغّل فيه، أمّا الكتّاب فإلى تقليده، كلٌّ منهم على النحو الذي راقه.

بات البحث عن كافكا الأصلي، من فرط ما تكاثرت وجوهه وأبعاده، لا يتبدّل مع كل عصر، بل من عام لآخر، ومن بلد لبلد، فالنقد وجده فريسة سهلة بعدما أصبح مطواعاً لما يروّج عنه. ما فرض التساؤل، فيما إذا كان ما يُسبغ عليه إقحامٌ على عوالمه الحقيقية؟ حتى سيرَتُه ورسائله الشخصية لم تنجُ من التحليلات والافتراضات المغالية. ترى، لو عاد كافكا إلى الحياة، واطلع على ما يدور عنه، فهل سيتعرف إلى نفسه في ما يكتب عنه وعن كتاباته؟

لن نناقش النقّاد، هذا شأنهم، بالأحرى هذا عملهم، إنها مهنة، أحد مشاغلها البحث في النصوص. كذلك لا يمكن إغفال ثراء ما يكتبونه، وما يطرحونه حول عالمه، خاصّةً أنه لا بدّ يثير قضايا حقيقية، لكن إلى أي حد ينبغي، أو يجوز استمراؤها، إن استنفدت أغراضها، وترسّخت وأصبحت مادة ثمينة للجدل، لكن يُخشى أنّ ما يتوالد منها يذهب إلى مسارب تصبح طوعاً لمهارات النقد في الدوران في المكان.

عبّر كافكا عن الغموض الذي يلفّ العالم، وحاول في أعماله الولوج فيه، والكتابة عنه بوضوح من خلال أكثر من إشكالية. موضوعه الذات الإنسانية إزاء الكون، وما تنجلي عنه من غموض أبهظ روحه، ومحاولته التعرّف إليه. وكان من جراء اعتقاده بفشله، أنه أوصى صديقه ماكس برود بإحراق مخطوطاته، لمجرّد أنه أخفق في العثور على جواب، مدركاً ألّا جواب فعلاً، إلّا باختلاق جواب، سواء أكان صحيحاً أم لا، لا يزيد على عبث.

لا يمكن الحجر على الكتابة، هناك مرحلة قد يمرّ بها الكاتب، يعجب فيها بما يقرأه، فيقع في حبائله ويقلده، حالة ليست صحية لكنها غير سيّئة، على ألّا تدوم طويلاً. ينتقل بعدها إلى عالم ينبغي أن يُعبّر عنه، من خلاله، لا أن يستعير الآخرين للكتابة عن عوالمهم التي استأثرت به، لمجرّد أنها جاهزة، ومن إنجازهم، استهوته بفعل دعايات نقّاد من هواة تكريس الغموض.

الكتابة في الأساس ضرب في المجهول، لكن على الكاتب أن يكون رقيباً عتيداً على ما يمكن أن يتأثّر به، لئلا يفقد نفسه، ويضيع بين أدوات تمتلكه بدلاً من أن يمتلكها، ويتحوّل إلى عامل في صفوف الغير، فيشيح عن عوالم بمتناول نظره. ماذا عنها، هل تشكو من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى كشف، بينما هي غارقة في الغموض؟

أُدرك أن ما تعرّضت له لا يفي الموضوع حقه، لكنني أرغب في لفت النظر إلى أنني أكتب من موقعي كروائي فقط، وأسمح لنفسي بنصيحة إلى الروائيّين سبق أن سجّلتها في روايتي “المترجم الخائن”: “إياك والانصياع لوهم يقيس عمق الفكر بغموض التعبير”.