خلافاً للشائع، لم تعد الكتب الأكثر قراءة تتمتّع بما حظيت به قبل سنوات. ما يجب ملاحظته هو أن الروايات التي أصابتها الشهرة في زمنٍ مضى، تحت زعم أنها الروايات الأفضل، بالنظر إلى ما درّته من مال، وشدّة الإقبال على قراءتها، لم يعد أغلبها يُقرأ، وربما ذهبت إلى ما يشبه العدم. بات الكتاب لا يعيش إلّا حياةً واحدة، قد تدوم أسابيع أو أشهراً ــ بينما كان الأمل بضع سنوات ــ ولم يعد يتذكّرها إلّا القلّة، ما يعني أن شريحة كبيرة من القرّاء غُرّر بها تحت تأثير الدعاية، واعتقدت أنها روايات رائعة ومثيرة، ممتعة وذكية، وما طرحته من موضوعات كان مهمّاً.
هذه المقدّمة لا تُعنى بالروايات العربية، فهي خارج هذه الحسابات، إذ لا يُعرف ما المشهور من غير المشهور، وما سقط على الدرب وما تابع الدرب. وإذا اقتصرنا على الروايات الغربية، يمكننا الاستدلال من خلالها بشكل أوضح على مسألة الترويج للكتب التي أصابت أمّهات الروايات، وبعضها يُعَدّ من الكلاسيكيات.
ذلك ممكنٌ بالعودة إلى حركة النشر الأميركية التي أثّرت فيها سلباً، إذ يُلاحظ غياب الكثير من الكتّاب الذين أحدثوا نقلات نوعية في الكتابة الروائية، وكانوا أيقونة الرواية الأميركية، مثل هنري جيمس، وليم فولكنر، جون دوس باسوس، هنري ميلر، فلاديمير نابوكوف. كذلك غياب روائيين تُرجمت بعض رواياتهم إلى الإنكليزية، أو صدرت طبعات لمؤلّفاتهم في أميركا، نظراً للضّجة التي أحدثتها كتاباتهم في أوروبا، مثل فرجينيا وولف، جيمس جويس، فرانز كافكا، ألبير كامو، جان بول سارتر، غراهام غرين، جورج أورويل، هرمان هيسّه، دوريس ليسّنغ، إيريس ميردوخ، والقائمة تطول: أيّ كل ما يقرأه عشّاق الرواية منذ منتصف القرن الماضي إلى الآن. يُلاحَظ غياب هؤلاء من دائرة الإقبال على القراءة، بينما الذين هيمنوا على سوق القراءة، في الفترة نفسها، تحت تأثير الدعاية، ليسوا في حالة غياب اليوم، بل طاولهم النسيان أيضاً.
الأكثر رواجاً يحجب الأقلّ انتشاراً والأكثر أهمّية
ليس عسيراً التكهّن حول رواج بعض أنواع من الروايات، فالظروف السياسية والاجتماعية والاضطرابات والمتغيّرات والمخاوف، تلعب دورها في الانصراف إلى كتب تتعرّض إلى موضوعات آنيّة تُهمّ القارئ، أو تشكّل حنيناً إلى الماضي وإلى العواطف المفتقدة في عالم أصبح رقمياً وافتراضياً. ويلاحظ في السنوات الأخيرة هيمنة روايات تعرية الفساد في الدولة والقضاء والشرطة دون استثناء منصب الرئاسة، وروايات موضوعاتها عن الدين والمرأة والجنس والعصابات والفضائح والغرائب.
يحيلنا ما تتالى على الرواية من تراجعات إلى “قائمة مضادّة”، تضمّ أهمّ الروائيين العالميين، الذي لم يتمكّنوا من دخول سوق القراءة إلّا بشكل عابر ومحدود لا يكاد يستحقّ الذِّكر، فلم تحظَ رواياتهم بالشهرة ولا بالرواج، مقارنةً بالشهرة والأرقام التي سجّلها غيرهم من الكتّاب الذين اختفوا، فيما بعد، من عالم الرواية.
الجانب الإيجابي، هو أنه مهما أصاب القائمة المضادّة من الغبن، فأصحابها هم الذين يصنعون تاريخ الرواية وآفاقها، لكن لا ينبغي إغفال الطابع المأساوي، المثير للسخرية، في أن الكاتب ربما لن ينعم بثمرة ما أنتجه. لا ننسى أن بعض الكتّاب، خصوصاً في بلادنا، عانوا من الجوع، وبعضهم انتحر، ولم يظفروا حتّى بدعم معنويّ. ما يدلّنا على أنّ الصحافة والنقد مقصّران، فإذا كان النشر شرّيراً وأعمى، فالصحافة لا تقلّ عنه شرّاً وعمىً. لكن ماذا عن النقّاد؟ الأسوأ هو تراجع الناشر المثقّف، غاوي الأدب، والمغامر في النشر، والداعم للأدباء. أمّا شركات النشر العملاقة، فلا قلب لها: تُصدّر أدباء، تصنعهم وتستنزفهم، ولحظة يأفل نجمهم ترمي بهم إلى التقاعد القسري.
وإذا عرّجنا على منطقتنا، نلاحظ اتّجاهاً بات ملموساً لدى دور النشر، وهو المسارعة إلى ترجمة الكتب الأكثر مبيعاً، وليس هناك كثير اعتراض على الترجمة، لكنّ المشكلة تتبدّى في أن الأكثر رواجاً يحجب الكتب الأقلّ رواجاً، وربما كانت الأكثر أهمّية، والتي تشكّل عالم الرواية العالمية الأكثر رسوخاً وديمومةً، وهو ما يحتاجه فعلاً قارئ الرواية العربية ليتعرّف على ما بلغته التجارب الروائية في العالم.
قد تصنع الشهرة رواياتٍ أعمارُها قصيرة، وشهرة روائيين أعمارهم أطول، يتعيّشون عليها، ويظنّون أنها حقيقية، بينما هي صناعة، ليست غامضةً شبكاتُ الدعاية وراءها. بينما تضمّ القوائم المضادة روايات أعمارها أطول، وربما لا تشيخ، وروائيين لا يبحثون عن الشهرة، بل الشهرة تبحث عنهم، لتعترف بهم.
-
المصدر :
- العربي الجديد