المبشِّر بخير، لكنْ ليس الخيرَ كلّه، ظاهرة دُور النشر في الوطن العربي التي تتكاثر وتنشط في معارض الكتاب وتتمدّد إلى المهاجر. ظاهرة تستحقّ كلّ تشجيع، وتستحقّ في الوقت نفسه ألّا تنجو من النقد. فالغاية الطيبة، التي بدأت بنوايا نزيهة، لا ينبغي أن تصيبها الشبهات، بل الحفاظ عليها، ودفعها إلى الاستمرار، ولو كان المأمول أن تجني الربح، لكن خشية أن تصبح تجارة محضة، وهو أمرٌ وارد. فالنشر صناعة وتجارة، لذلك يجب حمايته من الوقوع بين براثن التجارة فقط، ومن أن يُغفل أنه تجارة تتعامل بالثقافة، بمعنى أن له محاذير.

وإذا أردنا تبسيط دعوانا، فثمّة ناحية لا يختلف فيها النشر عن تجارة المواد الغذائية التي تعمل وفق قوانين تَمنع بيع موادّ منتهية الصلاحية، مراعاةً للصحّة العامة. أمّا النشر، فلا رقابة جادّة عليه سوى تلك التي نضيق بها، وهي رقابة الدولة التي تستهين بالثقافة نفسها، ولا تعبأ بها إلّا على أنها ثقافة مشكوك في نواياها، ومسلَّطٌ عليها سيف المنع؛ هذا ما يعنيها منها، ولا تقصر في التضييق عليها، إذ ليس الهدف سوى التحريض على الاستسلام لعدم التفكير.

انتشار دور النشر ظاهرة يجب أن تكون جيّدة، ففتْح المجال لنشر الكتاب وتوزيعه وجعله بمتناول الناس مهمّة نبيلة، قامت بها دور معتبَرة تابعة للدولة أو خاصّة، والأمثلة متوافرة: وزارة الثقافة السورية اضطلعت بجهد ممتاز في هذا المجال، وإن شملها التراجع في العقد الأخير، لكن ما زلنا نأمل، ونعرف أن هذا عائد للأوضاع السياسية؛ كذلك تراجع حركة النشر في بيروت، والتي حملت هذا العبء عدّة عقود وبكفاءة كبيرة، تراجعت بسبب الأزمات المتلاحقة التي أصابت لبنان.

صنعة النشر مثل تجارة الغذاء عليها مراعاة الصحة العامة

أمّا الملاحَظ، فاستمرار عدّة مشاريع ضخمة في النشر لا يُستهان بها أبداً، في مصر الرائدة على الدوام. ولا بدّ من الإشارة إلى “مؤسسة هنداوي” للنشر، وكذلك، في قطر، إلى الإصدارات الأكاديمية لـ”المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”. يُضاف إلى ذلك مشروع “كلمة” في الإمارات، وإصدارات “هيئة البحرين للثقافة والآثار”، وغيرها في البلدان العربية. وربما لو التفتت حكوماتنا للثقافة لأحسنت العمل، بما يفوق سياساتها الكارثية، ولا شكّ ستكون تقويماً لسياساتٍ أوردتنا المِحَنَ والأزمات.

أغلب هذه المشاريع المتميّزة تعتمد بشكل رئيسيّ على الترجمة، ومهْما شاب بعضها من فوضى، فهي تسدّ ثغرات كبيرة ممّا فاتها. ويمكن القول إنها تجاري إلى حد ما حركة النشر الغربية لا سيما في الرواية، لكنّ ضعْفَ الترجمة مقتلُها، وفي تلافيها، نكون بلا مبالغة نصنع عصراً مجيداً من الترجمة، يُسهم في التواصل الثقافي مع العالم؛ فالترجمة لم تعد مقتصرة على الغرب، بل باتت أكثر انفتاحاً على البلدان الأخرى.

لكنّ السؤال: ماذا عن الكتب المؤلّفة بالعربية، التي من شأنها أن تُطلعنا على الجهد العربي في الإنتاج الثقافي؟ الملاحَظ أن القسم الأكبر منها تضطلع بها دور النشر الخاصّة، رغم تركيزها على الكتب المترجمة لأنها تحقّق مبيعاتٍ أفضل، ما ينزل بالكتب المؤلَّفة إلى الحدود الدنيا بالمقارنة معها، مع عدم التشجيع عليه، ومع توافر رغبة عارمة للنشر لدى المثقّفين وشبّان الرواية في المقابل.

ما أضاف منذ سنوات ظاهرة جديدة آخذة بالاستفحال، باتت تسترعي النظر، وهي اضطرار الكُتّاب إلى تمويل كتبهم، بدفع تكاليف الطباعة إضافةً إلى أرباح الناشر مقدّماً، ما يرتّب على الناشر طبع الكتاب وتوزيعه، أي حمل الكتاب إلى معارض الكتب في البلدان العربية، ودفْع تكاليف الجناح ومصاريف الانتقال والإقامة.

أغلب مشاريع النشر المتميّزة يعتمد على الترجمة أساساً

هذا لا يساعد على الكتابة ولا على الثقافة، فالكاتب كلّما ألّف كتاباً وجب عليه دفْع تكاليف النشر، وهذا ما يدفعه إلى اليأس. من جانب آخر، لا يستطيع الناشر حمْل أعباء النشر على عاتقه؛ أقلّ ما يزعمه الناشر هو تكدّس الكتب في مستودعاته، وأنّ لا تصريفَ لها، وأنّ تكاليف تخزينها تفوق الربح المتوقّع منها. فالناشر يعمل في التجارة ويبغي الربح لا الخسارة ــ وإنِ ادّعى نشر الثقافة ــ وهو ليس مسؤولاً عن ضعف القراءة لدى الناس. الأمر الطبيعي أن الثقافة تحتاج إلى مال، ولا تتعيّش على إحسان الكاتب والناشر، فإذا كان الكاتب يكتب، فالناشر ينشر.

هناك طرق عديدة لمساعدة الناشرين، تتقاسمها الدول، وذلك بعدم تحميلهم أجور الأجنحة في المعارض، وتخفيض الضرائب على الورق، كذلك أجور الشحن، وتحديد أرباح الناشر. فالثقافة يجب ألّا تكون في بلداننا مصدراً للربح الفاحش، وإنّما لربحٍ معقول؛ إذ إن الربح الحقيقي هو في نشر الثقافة.

بالمقابل، لا يجوز للناشر نشر الكتب لمجرّد أنها تدر المال؛ إذ إن لديه مسؤولية هو أيضاً: ألّا ينشر إلّا الكتاب الجيّد، أو الذي يعتقد أنه جيد، وهذا لا يمكن أن يَحكم هو عليه من حيث الجودة. ومهمّة الناشر ألّا يراقب الكتاب كما تراقبه لجان رقابة الدولة، وإنّما أن تكون لديه لجنة قراءة، ليست كلجان الجوائز ــ لا تقرأ، وإذا قرأتْ فلتُرضي القائمين عليها ــ بل تتألّف من قرّاء موثوقين يقرّرون ما إذا كان كتابٌ ما يستحقّ النشر، وهو تقليد متَّبَع في أغلب بلدان العالم، وليس في هذا أيّة غضاضة من قدرات الناشر مهما كان مثقّفاً. فمنشورات “غاليمار” الفرنسية، كان ألبير كامو أحد خبراء القراءة فيها، مثلما كان الشاعر ت. س. إليوت خبيراً في دار “فيبر آند فيبر” الإنكليزية، مع أن لجان القراءة في الغرب انحدرت إلى حدّ أنها تَنسى القراءة أحياناً.

هل نريد لدور النشر السيرَ في طريق يُثمر ثقافة وأدباً؟ إذا كان، فلن يكلّف ذلك دولَنا الكثير، فبعض الدول تصرف على الترفيه مبالغَ طائلة، وبلغ بها حدود الكرم أرقاماً خيالية في ما تمنحه من أعطيات لهؤلاء القادمين إليها بملابسهم البرّاقة والملوّنة إضافة إلى أجورهم الفَلَكية، ليهِبوا المتعة للجماهير العطشى إلى الترفيه عن النفس. ومثلها بلداٌن أُخرى، لا تكفّ مهرجاناتها المبهرجة عن توزيع المتعة بلا مقابل.

ولمعلومات القائمين على هذه الاحتفاليات الممتعة، يُعتبر الفن والأدب صنوَيْن، والأدب لا يقلّ عن الفن، فهو يهب المتعة، المتعة الحقيقية بليغة الأثر، وفي حال جرى منحه ما يستحقّه من دعم، فسوف يكلّف أقلّ من حفلات الضجيج والأزياء البرّاقة. كذلك الدول التي تشنّ حروباً على شعوبها، سوف يكلّفها أقل من ثمن صاروخ واحد.

بعدها يمكن مطالبة الناشرين بأن يكون لديهم قرّاء للكتب، فلا ينشرون إلّا الكتاب الجيد ولا يضطرّون للنشر بمقابل وكيفما اتّفق، ونُريح الكاتب من دفع ثمن ما يكتبه؛ ربما يوفّره لطعامه وطعام أولاده. لسنا بحاجة إلى هذه الميلودراما الثقافية كي نقول إن الكاتب قد يموت من الجوع ومن شدة البؤس، وندّعي بأن الجوائز تُنقذه من الفاقة، فهي لا تُمنَح إلّا بحساب، ولحساب مَن يسبّحون بحمدهم.

هذه خطوة نحو إرساء تقاليد معقولة في نشر الكتاب، وإتاحة الفرص للأدباء. قد تؤسّس لو خلصت النوايا لترسيخ تقاليد حقيقية. دعونا نفكّر أكثر بالكتاب، ولا نفكّر في الحروب وقتل الشعوب.