“ومضينا في الخراب”، كانت خاتمة في “تفسير اللاشيء” رواية فوّاز حدّاد، الرواية التي لم تقدّم نفسها كما لو شاهد على زمن :”القتل، السبي، العنف”، ومع القتل والسبي والعنف، ذاك الضياع الهائل في سؤال الوجود.
ـ نعم هو سؤال الوجود.. سؤال كيف تكون حين لا تكون؟
ومع السؤال، ذهب فوّاز نحو الـ:�
ـ لا إجابة.
ثمة رجل رشق في وجوهنا ما لا ينتهي من السؤال.
سؤال الزمن أولاً، الزمن بكل معانيه، ببعده البيولوجي في حياة بطله الصاروف.. بطلته سهير، والرّاوي الذي يقصّ علينا الحكاية كما لو يكتبها بدمه.
هي رواية سوريا.. سوريا وقد رُسمت كما لوحة بتفاصيلها.. تفاصيل اللون والرائحة، وكذلك تفاصيل احتضارات بشرها وقد تاهت بهم السبل فيما الدمار يتآكل ما تبقى من رؤوسهم، وأحيائهم، وكذلك في آمالهم وقد انتُهكت حتّى باتت الخيبة وحدها ما يفيض عن حاجتهم، وحتّى بات طلب المشنقة مطلبهم، أو السعي إليها في مواجهة سؤال:�
ـ كان ينتمي إلى الحياة وبات ينتمي الى العدم.
جارحةٌ ومؤلمةٌ، وفاتنةٌ تلك الرواية، هي كذلك وإن لم تحكِ وقائع فاتنة، وإن كانت وقائعها أشدّ هولاً من الجارح والمؤلم.
ثمّة من هدر دم البلد.
تلك حكايتها، ومع من هدر دم البلد، ثمّة تفاصيل تندرج في لعبة ذاك السؤال الولاّد.. السؤال الوقح:�
ـ ما الحبّ يا رجل؟
وكأنّه فيما يرويه لنا، يدّخر من الحب ما يتركنا على رصيف الطريق لنبحث عمّا فاتنا قوله، وكما لو رجلاً شديد الكرم يمنحنا عكّازه لنبحث معه.. نبحث نحن العميان عن تلك المصيدة القاتلة التي اصطلح على تسميتها (جزافاً) بالحبّ.
الحبّ، الحيوان المفترس الذي يأكل رجلاً ضللته الحياة وأعياه اللحاق بها.
لن نقول أنّ فواز حداد أمسك بأيدينا إلى “الحياة اللذيذة”، أو تلك “الآمنة”، لا.. لقد دلّنا بالكثير من الأصابع على موتنا الشقي، ولكنه الموت المشرّف، ذاك الموت الذي يصطادنا واحدًا واحدًا، يستفرد بنا، دون أن نعثر على حيلة لردّه، أو ردعه، أو تقبّل أوامره.. الموت الذي لابدّ منه حين لابدّ منه.
هو موتٌ يطال السوريين .. كلّ السوريين، بمن فيهم جلاوزة الهتاف الميت، وشبّيحة القتل والسلب، وناهبي أثاث حياتنا فضلاً عن أثاث منازلنا.
هي الرواية التي تشهد لا على “الثورة المنكسرة” ولا على ” السلطة الظافرة”.. لا.. هي هذا وذاك وتلك من كلّ ما وقع علينا حتّى بتنا نحرث في تفسير اللاشيء.. اللاشيء الذي هو الشيء بذاته وإنْ أعيانا تفسيره.
ـ تفسيره من مقعد المؤرّخ، أو تفسيره من موقع الشاهد، أو تفسيره من موقع الضحيّة، وكلّها تفاسيرٌ تليق ببلاد لم تكتب تاريخها بعد، وإن كانت قد عاشت كلّ تاريخها.. كلّه.. كلّه بتفاصيله، ودون ظلال تبعث على التكهّن أو تحتال على وقائعه.
وقائع الدمار والسجون والزعران، وتلك الوقائع التي لم تقع بعد.
إذاً، ننتظر ومع كل فصلٍ من فصولها أن يدلّنا الرجل على ما حدث، والغريب أنّنا في الكثير من الملاحظات نذهب معه إلى ما حدث لنصل معاً وقد نسبقه في الوصول إلى لحظة وقوع الواقعة.
كنّا نظنّ أنّ وقائع حرائق سوريا في سنوات احتراقها، لن تتحول على هذا النحو من الشهادة على الوجوه المحترقة، والأيادي المحترقة، والإيديولوجيات المحترقة، وكذلك على تاريخ لابدّ سيتآكل تحت وطأة ما سيحدثه كتّاب التاريخ من حرائق في ذواكرنا.. كنّا نظنّ ذلك، وها هو الغطّاس يُكذّب البحر، ففي “تفسير اللاشيء”، ثمّة من يكشف عن الحرائق ببعثرة الرماد الذي غمرها.
�ـ نعم هو الأمر كذلك.. وهذا عزاءٌ لنا، نحن ضحايا التاريخ الذي يكتبه المرتزقة، بمن فيهم المرتزقة المتصارعين الذين يشهرون بنادقهم في وجوه بعضهم.
هذا هو الأدب، وتلك هي الرواية، والرهان لن يكون سوى على بشر زهدوا في الكذب، وتقدّموا بخطواتٍ واثقةٍ لرفع الستارة عن السيرك القاتل الذي أخذ البلاد لتكون سيركاً فكتبوا لنا البلد، كما لو يدقّون الساعة الكبرى، ساعة قيامتها.
في زمان آخر غير زماننا، سنقرأ “تفسير اللاشيء”.. سنقرأه، ومع آخر صفحة من صفحاته سنكرّر مع فوّاز:�
ـ ومضينا في الخراب.
عزيزي فوّاز.
خرابك ذاك، رممّ ما تبعثر مني.