فواز حداد؛ روائي سوري متميّز، وضع كتاباته في نسق التأريخ للواقع الاجتماعي والسياسي لسورية الحديثة، وللمجتمع الدمشقي بشكل أساسي؛ منذ الاستعمار الفرنسي لسوريا إلى اليوم وربيعها وثورتها، وعبر كتابة روائية متمكنة صاغت الحياة عبر عشرات السنين في سوريا.
( الرواية تقول: إنّ الصراع العلماني الإسلامي مصطنع، وأنّ النظام المستبد والقوى الدولية لها مصلحة بخلق هذا الصراع لضرب المجتمع وتفتيته)
تبدأ الرواية بالحديث عن “فاتح” المفكر العلماني المعروف بتصديه الدائم للتيار الإسلامي، له علمانيته الخاصة فهو ينظر للدين و الإيمان كعامل تخلّف، وهو مع فصل الدين عن السياسة، ويصل أحياناً لطرح فصل الدين عن الحياة، فما نفع الإيمان والتدين، إلا كمدخل للجهل والخرافة والاتكالية وعدم الأخذ بالعقل والعلم في مواجهة الحياة، له حضوره شبه الدائم في الصحف والمجلات الثقافية السورية، وكذلك محاضرة شهرية في المنتدى الثقافي.
الجديد عنده أنّ أحدهم التقى به على درج بناء المؤسسة التي يعمل بها، وصفعه الأولى والثانية وألقاه أرضاً، أغمي عليه وسال دمه، همس في أذنه ما لا يدري، وتركه وانسحب. فاتح صحا على نفسه في المشفى يخضع للعلاج، فاتح يعمل في مركز بنك المعلومات التابع للدولة، مركز مهم لكنّه فخري وغير ذي سلطة، فيه تتجمع كل المعلومات، وإليه يعود كل من يريد من أجهزة الدولة أن يتزود بمعلومات عن وضع معين، السلطة تعرف فاتح وهي من اختارته لهذا المنصب مكافأة لموقفه العلماني المتوافق مع موقف السلطة، فاتح ليس من فئة مفكري السلطة الذين يستدعون حسب الحاجة، للتعبير عن ما تريده بلغة الثقافة والعلم والسياسة وفي كل وقت، يعتبر نفسه متفق مع توجه السلطة العلماني لكنّه يتصرف بحرية ودون إملاءات خاصة. حياته روتينية يعيش في شقته المتواضعة الخاصة منعزلاً عن محيطه، فقد زوجته التي يحبها كثيراً، ماتت بعد حادث سير دخلت به في غيبوبة، وحاول معالجتها في المشافي العامة والخاصة، استغلوا حبه لها واستُنزِف مادياً، أخيراً ماتت، وهو يعاني غيابها، استمر زواجه لسبع سنوات، وهي ماتت منذ ثلاث سنوات، ويعيد ذكرى وفاتها السنوية ضمن طقوس خاصة، علاقته مع الإيمان والإلحاد مرت بفترات مد وجزر، كان أهمّها أنّه أعاد الاعتبار للإله شرط أن ينقذ له زوجته من المرض، لكنّه لم يحصل، وماتت بعد ذلك، وعاد متشنجاً أكثر تجاه الله الذي لا يرى لحضوره أيّ معنى.
في المشفى سيزوره المحقق “سليم” ممثلاً عن فرع مكافحة الإرهاب، ويتحدث عمّا حصل معه، سليم محقق خاص مفوض بسلطات كبيرة، مكلّف بالجماعات الإسلامية تحديداً، ومتفرّغ لدراستها ومحاربتها، يناقش فاتح حول محاضراته ودوره العلماني في مواجهة التطرف الإسلامي، يشجّعه على الاستمرار في موقفه وأنّه تحت حماية السلطة، فاتح يوضّح لسليم أنّه يقوم بدوره عن قناعة، وليس إرضاء للسلطة، وسليم يقبل منه ما يقوم به لأنه يتوافق مع ما تقوم به السلطة، اتجاه التيار الإسلامي، لمنعه من التغلغل في الواقع الاجتماعي، وضد أي دور سياسي مهما كان متواضعاً.
سليم يتذكر أنّ بينه وبين الجماعات الإسلامية ثأر لأنّه فقد أهله جميعاً حينما هاجم الإسلاميون الحزبيون في مدينة ما (المقصود حماة) وقتلوهم، يومها اعتبرها الإسلاميون محررة، (نعرف بعد ذلك المجازر التي صنعها النظام في حماة وغيرها والضحايا بالآلاف)، كبر سليم حاقداً على الإسلاميين وضرورة محاربتهم، وهذا ما شكّل جوهر سياسة السلطة في سوريا، كانت ترى أنّ الإسلاميين الطرف الوحيد المؤهل لينتزع منهم السلطة، لذلك قرروا مواجهتهم وإجهاض أي توافق معهم أو أي حراك لهم في المهد.
شجع سليم فاتح على الاستمرار في حملة التثقيف والتوعية ونشر العلمانية وتعرية الإسلاميين والفكر الديني عموماً، خرج فاتح من المشفى، وألقى محاضرة نارية ضدّ الإسلاميين وضد التدين عموماً، دعا فيها للاختلاط في المدارس، وإلغاء مادة الدين من التدريس، وسرعان ما تلقف سليم وشعبة مكافحة الإرهاب ذلك، وقرروا استثماره في حملة تصعيد لخلق أجواء صراعية، علمانية إسلامية أساسها آراء فاتح وعلمانيته في المحاضرة الأخيرة، وأصبح يلتقي بفاتح تباعاً ليقود من خلاله ومعه حملته على التيار الإسلامي. ففي حقيقة الأمر كان هناك مفاوضات مستمرة بين السلطة وبين ممثلين عن الإسلاميين منذ فترة طويلة، السلطة تريدهم أن يعودوا إلى البلد كأفراد ودون ممارسة أيّ عمل سياسي بصبغة إسلاميّة، وكان الإسلاميون منشقين بين طرفين أحدهما يرى ضرورة العودة للوطن ولو للعيش والموت فيه فقط، والبعض الآخر اعتبر هذا خروج عن حقيقة الدعوة الدينية وخيانة لكل من ضحّى من الإسلاميين عبر عقود، لفاتح دور بخلق أسباب الصراع، والتأكيد على أنّ الصراع مع الإسلاميين حتمي ولا حلّ إلا باستئصالهم، لذلك تمّ دعم حملة إعلامية تظهر فاتح بوسائل الإعلام والصحف كداعية تحرر والعلمانية والعدو اللدود للإسلاميين، وتصل لوسائل التواصل الاجتماعي حيث تشن حملة معه، وحملة ضده، تصّعد المواقف لتصل لمرحلة استباحت دمه، واستثمر ذلك سليم ليصل إلى إلغاء أيّ مصالحة بين السلطة والإسلاميين حيث يشيع أنّهم يخططون لقتل فاتح.
في مستوى آخر سنتعرف على شخصية صديق فاتح من الطفولة، الذي يظهر أمامه ويذكره ويتناقش معه، ويلومه على تطرّفه بالمحاضرة، ويتحدّث عن الدين وعمله الوجداني في الناس، عن الأخلاق، عن الله في الوجود والضمير، ويناقشه فاتح حول عدم تدخّل الله في شؤون الناس، وتركهم للشر يقضي عليهم، سيرد عليه: إنّ الله خلق الناس وأعطاهم حريتهم يتصرفون كما يشاؤون والحساب بعد ذلك، اختلفوا لكنهم بقيا يحتفظان بالود، الصديق أخبر فاتح أنّه يعلم بكل ما يتم من مفاوضات بين السلطة والإسلاميين، ويعلم بعلاقة فاتح مع سليم محقق الإرهاب، ويعلم أنّه تحوّل شاء أم أبى إلى أداة في خطة، المقصود منها ضرب المصالحة إن كانت ممكنة، وسيكون فاتح نفسه الضحية التي ستقتل، ويحمل مقتله على الإسلاميين، وأنّه لا حلّ معهم إلا الاستئصال، وتدور دورة عنف جديدة، يتخلص بها النظام من الإسلاميين إلى غير رجعة، اعتقال ونفي وقتل وتشريد.
( السلطة في سوريا كانت تهدف لإنهاء الجماعات الإسلامية، بالتفتيت أو الاستسلام أو الاعتقال أو خلق الفتنة بينهم، ومع القوى السياسية الأخرى)في مستوى آخر كان لفاتح عالمه شبه الكامل الممتلئ أيام حياته الزوجية السعيدة، التي انقضت بسرعة بموت زوجته، فقد كان مخلصاً لعلمانيته ولدعوته لتحرر المرأة من كل القيود الاجتماعية، وخاصة الدينية، وهذا شجّع الكثير من صديقات زوجته على اختيار حياة انطوت على تمرّد، أدّى عند البعض للطلاق عن أزواجهم أو الاستمرار في حياة العزوبية، والبعض اختار حياة الحرية بمعناها الإباحي، وكان هو هدفاً لبعضهن كأستاذ يعود له فضل وعيهم الجديد، ولم يستطعن أن يصلن إليه إلا بعد أن ماتت زوجته، سيكنّ له الملاذ النفسي، عندما يحتاج أن يشبع جسده أو عواطفه، وكانت هيفاء صديقة زوجته الأقرب إليها والأقرب له بعد ذلك، وكان يضعها دوماً بصورة ما يحصل معه، كانت تحنّ عليه وتشاركه همومه وتقدّم له النصائح المناسبة، كانت بعمقها مؤمنة، وترى بعلمانيته تطرّفاً
غير مقبول، وكانت تعلم أنّ زوجته أيضاً كانت مؤمنة، وتتحمل مصاب حياتها بعدم الإنجاب لأجل حبّها لزوجها، وأنّ الله سيجزيها على صبرها. المهم كان فاتح يعيش تحت تأثير متعدد، أفكاره العلمانية وتضخمها في ذاته، وصديقة الطيب المتدين المطّلع، وصديقته هيفاء التي تحتضنه وتداوي جراحه، والخبير سليم ممثلاً السلطة الذي أصبح يرصد حركاته ويقودها بعد ذلك .
فاتح يقع أخيراً في خطة المحقق سليم ممثلاً الأمن والسلطة، يخبره أنّه مهدّد جدياً بالقتل من إسلاميين متطرفين، وأنّه يجب أن يلغي محاضراته، ويغيّر عاداته، ثم يخبره بأنّه تحت الحماية الدوليّة لجهاز مكافحة الإرهاب الدولي. ومن جهة أخرى يخبره صديقه أنّ السلطة قررت قتله، ويحمل قتله على الإسلاميين لمنع أي فرصة لمصالحة محتملة بين النظام والإسلاميين. وعندما تعلم صديقته هيفاء بما يخطط له، تحاول أن تجد له مخرجاً كلجوء سياسي عند بعض الدول، لكنهم رفضوا استقباله، أو القبول بفكرة أنّهم يحمونه، وليقتنع أنّه أصبح بتوافق الكل الضحية المراد قتلها والكل له ومنافعه من وراء ذلك.
يعيش فاتح صحوة ضمير، حيث يلتقي بموظفي المؤسسة التي يرأسها ويودّعهم على طريقته من الودّ والمعاملة النديّة، ويعيد الفتاة المحجبة التي كان قد نقلها للمخزن إلى عملها الأصلي، كرد اعتبار، يتفهم صديقه المتدين بشكل أفضل، لقربه من الموت، سواء كان العدم أو خالق الوجود، وأصبح أكثر ودّاً مع هيفاء، التي تفانت في حمايته ودعمه نفسياً، والأهم أنّه كان سعيداً بأنّه سيكون بعد الموت كروح سواء عند الله أو في العدم قريباً من زوجته الحبيبة، وكان هذا أهم ما أفرحه من قدر الموت الذي ينتظره.
تنتهي الرواية عند ذروة انتظار قتل فاتح، لكن الذي يُقتل هو صديقه الإسلامي المعتدل المتنور المطّلع على حقائق الأمور، ضمن إعادة خلط الأوراق مجدداً، وجعل الرواية مفتوحة على كل الاحتمالات، وكذلك الحال في الواقع.
وفي تحليل الرواية نقول: نحن أمام رواية بمستويات مختلفة، الحياة اليومية العادية لأشخاصها، كغطاء لحقيقة المراد توصيله لنا كقرّاء، عن حقيقة الممارسة السياسية للسلطة الاستبدادية السوريّة في مواجهة التيار الإسلامي في الواقع، كيفية إدارة ملفاتها المختلفة لاستئصال أيّ مختلف عنها في الرأي والموقف والفكر والممارسة، وضرورة التخلص منه، ونحن هنا أمام مواجهة الإسلاميين، وكيفية استثمار أصحاب الأفكار المختلفة -العلمانيين هنا-، وكيفية استخدامهم في خطة الدولة، لقتل أيّ فرصة للمصالحة الاجتماعية، أو التوافقات الثقافية، أو إسقاط الاستبداد وبناء الديمقراطية، كلهم عند السلطة أعداء، ومن كل الخلفيات العقائدية، من قوميين إلى يساريين إلى إسلاميين، كلهم مصيرهم الاستئصال، الكل عند النظام أدوات تستخدم عند الحاجة، ولا يخفى على أحد أنّ زرع الفتنة الصراعية بين الكل، هي أساس الصراع الاجتماعي وديمومته، برعاية القوى الدولية، لاستمرار الاستبداد و تأبيده.
( الناس والقوى المجتمعية والسياسيّة عند السلطة المستبدة أدوات لخدمة مصالحها، تحالفت مع القوى الدولية عليها، ولو اضطرت حاربت الناس وقتلتهم وشردتهم)
نعم؛ وجاء الربيع العربي الذي فضح هذه الأنظمة أكثر، وأنّها مع حلفائها الدوليين والإقليميين مستعدة أن تقتل شعوبها وتشرّدهم، وتدمّر بلادها، المهم الحفاظ على السلطة ومصالح العصبة المسيطرة والقوى الدوليّة الداعمة لهم.
.هكذا تكتمل رسالة الرواية.
-
المصدر :
- الأيام