يعدّ الروائيّ السوريّ فوّاز حدّاد واحداً من أبرز الروائيين العرب المعاصرين، يعمل بجدّ وإبداع مؤمناً بالمصير الإنساني المشترك، ويعتبر الكتابة بالنسبة له أسلوب حياة، لا هواية أو غواية، يتنفّسها ويعيشها ويرتحل في عوالمها مؤثّثاً بذلك عالمه الرحب. يؤمن مبدع “السوريون الأعداء” أنّ الرواية تكسر الحواجز، إلا إذا أردنا العيش غرباء في عالم واحد، وفي ظل عداوات مستحكمة وتنازع على المصالح. لذلك فهو يكتب عن البشر في التاريخ، وهذا العصر الذي نعيشه.. ويؤكّد أنّه لن يستعير أزمنة الآخرين إلا بقدر صلتها بعصره، ويريد من رواياته أن تقدم الحياة في مشهد كبير وعريض يهتم بالإنسان وإشكالاته وأزماته المادية والروحية، قلقه ومخاوفه…
الابن الوفيّ لدمشق يعتبر مدينته العظيمة بؤرة ثقافية نشطة، استقبلت الجميع دونما تمييز، لم تضن على أحد. ويرى أنّه إذا كان قدرها، قد اختارها عاصمة لسوريا، فقد حملت عبئًا كبيرًا، فالعسكر استهدفوها بالانقلابات، لم تستهوهم إلا من أجل الاستيلاء على السلطة. وتراه يصف دمشق بأنّها روح سوريا لأنها مدينة كل سوري، ودمشق اليوم مدينة محتلة منذ أكثر من نصف قرن.
كان صاحب “يوم الحساب” واعياً ومدركاً منذ بدايات مسيرته الروائية، وقرّر أنّ الروائيين العرب يجب أن يكتبوا رواياتهم، لأنّهم إن لم يكتبوها بأنفسهم، لن يتبرع غيرهم بكتابتها بدلاً عنهم، ولن يكون أمينا لو حاول.. وهنا يقول: “لا نريد المزيد من التشويه، إن كانت مأساة فهي مأساتنا، إنها مأساة وجودية، نحن نصارع العسكر والظلام معًا”.
وعلى الرغم من أنّه لا يعتبر نفسه مؤرّخاً، إلّا أنّه يوصف بالروائيّ المؤرّخ لكثير من تفاصيل الحياة الدمشقية، الأمين لها، يدوّن ذاكراتها البعيدة والقريبة، يوثّق لحاضرها كما لتاريخها القريب والمعاصر، يقدّم شهادته التاريخية في رواياته الثرية الساحرة بدقة المؤرّخ وبراعة الروائيّ. في رصيد الكاتب اليوم 20 كتابا روائياً وقصصيا منشوراً، ويستعد لنشر المزيد من أعماله الروائية من منفاه اللندني. ويلحقه النقاد على رغم تأخره في النشر بكوكبة رواد الرواية في سوريا الذين جاءوا بعد جيل حنا مينه وحسيب كيالي، كهاني الراهب، وممدوح عزام، وخيري الذهبي، ووليد إخلاصي وآخرين من أدباء الستينات والسبعينات.
الروائيّ الدمشقيّ الرائد فوّاز حدّاد يحل ضيفاً على هذا العدد من مجلة “الجديد”، ليكشف لقراء المجلة وقارئاتها عن بعض اشتغالاته الروائية ويعبّر بصدق وجرأة وصراحة عن آرائه في عدد من القضايا ذات الطابع الإشكالي والمصيري في اللحظة الراهنة.
قلم التحرير
الجديد: هل يمكن الاعتقاد اليوم بوجود ثقافتين سوريتين ثقافة منفية مضادة للنظام، وثقافة داخلية خاضعة بشكل أو بآخر للأولوليات التي يسعى النظام إلى فرضها وتكريسها، أو هي منافقة برضى من النظام؟
فواز حداد: يتقاسم السوريون منذ سنوات ثقافتين ليستا على تضاد فيما بينها، إلى حد يمكن القول إنهما ثقافة واحدة، الأولى في الداخل والثانية في الخارج، على الرغم من الظلم الكبير لثقافة الداخل التي تعاني من التغييب، وعلى الأصح من القمع، مع هذا ما زالت تختلق منافذ تعبر من خلالها عن عدم انسياقها في دعايات النظام.
إن فسحة الحرية التي تتمتع بها كتلة وازنة من المثقفين في الخارج، لن يكون لها مفعول من دون التواصل مع مثقفي الداخل، وإبلاغهم أنهم ليسوا وحدهم، بل في الخندق نفسه، وذلك بتكريس جهودهما معًا، في ثقافة مضادة للنظام الشمولي. من المهمّ عدم غياب سوريا والسوريين عن ثقافة الخارج، ان قضية كبرى تجمع بينهما، وموضوعهما واحد، وهو التأكيد على حق السوريين المطلق في الحرية.
أما الثقافة المريضة التي يكرّسها النظام من خلال توظيف جهات ومؤسسات، وبعض المثقفين الذين اعتادوا على الانتفاع منه، بمنحهم مناصب وجرائد ومنابر، فهم في الواقع ليسوا مثقفين وإنما موظفون لديها، من دون قيم ولا أيديولوجيات، ماذا في الدفاع عن الدولة الشمولية، سوى دفاع بالأكاذيب عن أعمال النهب؟ ومعهم هؤلاء الذين يتذرعون بالإرهاب، ويدّعون الحياد، ويتاجرون بالأزمة والضحايا، وادعاء أن البقاء في الوطن هو مقاومة ونضال. ولو لم يكن بقاؤهم استعراضيًا ودعائيًا لكان محمودًا.
ما زالت في سوريا، رغم كل هذا الدمار، أرضية تنتج مثقفين كبارا، فبعد أنطون مقدسي وصادق جلال العظم وسعدالله ونوس، هناك بلا شك أسماء كبيرة، لا يمكن الإعلان عنها، من أجل سلامتها. يلاحظ، مثلا، بجلاء الكاتب والناقد محمد كامل الخطيب المعتزل في قريته الإسبانية، يكتب دون كلل عن عالم لا محالة سيبزغ.
أصوات الرواية
الجديد: من هم الروائيون السوريون الذين تعتبر إنجازاتهم الروائية مصدر أمل للكتابة العربية؟
فواز حداد: ما زال الروائي الراحل هاني الراهب أحد الملهمين الكبار للرواية السورية الجديدة. كذلك تقدم التجارب المهمة لخيري الذهبي وممدوح عزام وخليل الرز مجازفات روائية لافتة، تتميز بالجدة وباختراقات محتفظة بألق مغامراتها في المضمون والشكل، تشكل خريطة طريق ذات معالم مفتوحة على الفن الروائي سواء بإشكالاتها وآفاقها أو حفرها في الواقع والذات والتاريخ، كما لا يمكن إغفال محاولات روائية ممتازة مشغولة بإتقان رفيع، تبدو في إنتاج الجيل الحالي عبدالناصر العايد وهيثم حسين وفادي عزام وسومر شحادة، وهناك الكثير من الروائيين في الداخل والخارج يصعب حصرهم يخوضون في الرواية بحذر بسبب الظروف السياسية.
اليوم وخلال السنوات العشر الماضية برز العشرات من الروائيين الشبان، قدموا تنويعات شخصية ووثائقية وذاتية هائلة عن مرحلة الثورة والحرب، هؤلاء يشكلون الأمل في رواية لم تمتحن بعد، تكتب بجرأة لافتة، تهب الرواية السورية آفاقا مبشرة.
عمومًا أثبتت الرواية السورية حضورها القوي على المستوى العربي منذ سنوات، مع أن الجوائز العربية تجاهلتها، بعد ثورات الربيع العربي، وذلك في انحياز واضح ضد الثورات، ما انعكس على الرواية، يريدون روايات خالية من التمرد ضد الأنظمة القائمة.
الجديد: ما هو موضوع روايتك الجديدة التي هي قيد الكتابة الآن؟
فواز حداد: إنها جزء من مشروعي الأخير، حول فترة سنوات الثورة والحرب. يتضمن المشروع عدة روايات منفصلة عن بعضها بعضًا، يربط بينها مناخ واحد. كتبتُ أربع روايات منه، ما زالت هناك روايتان، الأولى ستصدر العام القادم، وهي في المنظور العام محاولة لتفكيك وتشريح آليات النظام الشمولي الرث، كأنموذج لما يجري في سوريا، وما سيجري في العالم العربي، مع عودة الانقلابات العسكرية، وتغوّل السلطات في تطهير المجتمعات من أيّ معارضة. وهي في الواقع، عن حركة السلطة والمجتمع والبشر، والانفجار الحاصل مع الثورة، والعيش تحت تأثير الديمومة المرعبة والقلقة، والوقوع أسير وطأة الاضطهاد الوحشي والنهب والقتل الممنهج والانحطاط الثقافي، إذ يبلغ القمع حدود التعذيب حتى الموت، والصمود الذي لا يمكن تفسيره إلا بثورة بلغ بها الإصرار حدود التحدي الانتحاري الأعزل. عالم من القسوة والحب، كذلك القدرة على تحمل كافة الظروف السيئة والرهيبة، رغم هيمنة العنف المطلق، وتدمير النسيج الاجتماعي، وتشويه العلاقات بين الناس وما تحدثه من شروخ وأمراض. إنها عن غياب الأخلاق وحضور الشر.
دمشق المحتلة
الجديد: أنت ابن دمشق.. فهل أنت الكاتب والمبدع السوري اليتيم؟ لأننا سمعنا مرة من شاعر سوري لا حاجة لأن نسميه أن دمشق لا تخرج أدباء ولكنها تخرج موظفين ورجال دين وتجاراً وما شابه…ما ردك على هذا الكلام؟
فواز حداد: لا لست الوحيد ولا اليتيم، دمشق مدينة رحبة وودودة يأتون إليها على الرحب والسعة من مختلف المناطق السورية، ويصبحون دمشقيين إضافة إلى انتمائهم إلى مدنهم وقراهم، بوسعك أن تجد في داخل كل منهم مكانة أثيرة لدمشق. لا ليست مدينتي، ولا مدينة الدمشقيين وحدهم، إنها مدينة الجميع، وليس في هذا ادعاء ولا رومانسية مفبركة، إنها حقيقة، يلمسها حتى الذين يعيشون في المناطق المهمشة حول دمشق. وإذا كان النظام يحاول الاستئثار بدمشق فهو أول من يعرف بأن أبوابها مغلقة في وجهه، وما محاولته استرضاء بعض المشايخ والتجار فيها إلا رشوة لشراء العملاء.
وبالنسبة إلى دعوى الشاعر، لم تخل دمشق من مرابع الأدب، ولم تحتكره، لديها أدباؤها وهم أدباء سوريا، إلا إذا أردنا التكلم بطائفية مقيتة. دمشق بؤرة ثقافية نشطة، استقبلت الجميع دونما تمييز، لم تضن على أحد. وهو يعرف أن هذا النظام الدكتاتوري يصنع أعوانه من مثقفين وشعراء وأدباء، مثلما يصنع هذا الخراب.
وإذا كان قدرها، قد اختارها عاصمة لسوريا، فقد حملت عبئًا كبيرًا، فالعسكر استهدفوها بالانقلابات، لم تستهوهم إلا من أجل الاستيلاء على السلطة. دمشق روح سوريا لأنها مدينة كل سوري، ودمشق اليوم مدينة محتلة منذ أكثر من نصف قرن.
الأدب والإنسان
الجديد: هناك شيء يؤمن به عمومًا في المجتمعات الشرقية، الرواية تنتمي إلى الغرب ، والشعر ينتمي إلى الشرق. أنا أشعر بالفضول بشأن رأيك في هذا. هذا اعتقاد لديّ يحتاج إلى إعادة التفكير.
فواز حداد: ثمة تعميمات تستسهل التصنيف، الشعر والرواية ليسا مواد أدبية حصرية، فالشعر ينتمي إلى الشرق والغرب معًا، كذلك الرواية ليست غربية فقط، والشرق ليس متطفلا عليها. الأدب إفراز إنساني، وليس هناك شعوب مختصة بأنواع وشعوب بأنواع أخرى، فالإنسانية ليست أنواعا، ولا تحكمها التراتبية، إنها تنويعات لأصل واحد.
أحيانا الظروف تختلف، فينمو أدب على حساب أدب، الأدب جهد بشري، ولا أعتقد أن هناك تمييزا بين البشر على أساس الشعر والرواية، فإذا كان السبق للشرق في بزوغها لـ”ألف ليلة وليلة” والمقامات، وقصص الجاهلية والإسلام، فقد كان للغرب دور في تطويرها وارتياد غمراتها، ودائما ما تقاسم كلاهما مسؤولية التقدم الانساني في مجالي الأدب والعلم، وإذا كنّا مقصّرين، فالتدارك ليس معجزة، ما دام التواصل متوافرًا، نحن في كوكب واحد.
ما يجعل لهذه الدعايات بعض المصداقية، ولا أعتقد أنها موثوقة، أن الذين يطلقونها في الشرق، يريدون أن ينسبوا إليهم الشعر، على الضد من الرواية التي تتقدم حثيثا في الغرب، لكن ما القول في هذه الجائحة الروائية التي تجتاح العالم من أميركا اللاتينية واليابان والصين. ولا تستثني اليوم، البلدان العربية في الاقبال الهائل على الرواية قراءة وكتابة إلى حدود مذهل، وكأنه لا يوجد غيرها أداة للتعبير؟
التأخر في النشر
الجديد: بدأت في نشر كتبك بعد سن الأربعين . هل بدأت الكتابة متأخراً، أم كنت تكتب مبكراً ولكن التأخر في النشر له أسباب أخرى.. هل الرقابة أحدها؟
فواز حداد: لم أبدأ الكتابة متأخرا، بل مبكّرا جدا، في سن ما قبل المراهقة، كتبت الرواية ثم القصة، فالسيناريو والمسرح والمقالة، كانت كلها موقوفة، لا يمكن نشرها، لا تخلو من مباشرة، وهذا من فرط حماستي، ثم تمهّلت، فإذا أردت النشر فاللجوء إلى الإيحاء بما أريد التعبير عنه، فذهب ما كتبته طعما للنار، وبرأيي كانت لا أكثر من تمارين، لم تفض إلى شيء جديّ يرضيني. كان تأخري في النشر عائدا إلى ظروف الحياة الصعبة من ناحية تأمين مورد يسمح لي بالكتابة من دون مقابل، إذ ما زال الغالب أن يدفع الكاتب لينشر كتابه. أما السبب بالغ الصعوبة فقد كان الرقابة بالدرجة الأولى، وهو أمر لا يمكن التغلب عليه بسهولة، ما يدع هذا السؤال واردا: إذا كان كتابي سيمنع، فلماذا الكتابة؟ لكنني وجدت حلًا، بالعودة إلى التاريخ القريب، فكتبت “موزاييك – دمشق 39”.
كان قراري مع صدور كتابي الأول أنني خلال عشر سنوات سأتفرغ للكتابة، وأعيش بالحد الأدنى. بعد نشر كتابين اخترقا جدار الرقابة، كان استقبال الصحافة السورية سيئا غالبا، بجهود مسؤولين ثقافيين صغار، لم يطل الأمر عندما بدأ المنع يأخذ منحى روتينيًا، يطال كل رواية، فتحولت إلى النشر في لبنان، فدخلت كتبي إلى سوريا بجهود القراء. طبعا طوردت رواياتي في لبنان، باليد الطويلة لبعض الكتبة في الجرائد السورية، بعد الثورة امتدت مطاردتي إلى أوروبا، فإذا سمعوا عن رواية ستترجم لي، يرسلون لأعوانهم، فيتبرّعوا بطيب خاطر لكتابة تقارير ضدها لأسباب يدعون أنها أدبية. من يحض على هذه التقارير؟ نقاد وأدباء وروائيون. الجو الثقافي في سوريا مسمم ومخاتل، لا يخلو من جميع الأمراض. بالمناسبة، تصنع الدولة الشمولية المثقفين والأمراض معًا.
البدايات الأولى
الجديد: متى بدأت الكتابة لأول مرة؟ إن تأثير أيام الطفولة هو سؤال أساء له دائمًا.
فواز حداد: بدأت في الكتابة في الرابعة عشرة من عمري، كتبت عدة قصص قصيرة، لاقت إعجابا من مدرس اللغة العربية، وعلق عليها “أتمنى لك مستقبلا جيدا في القصة”. كانت أشبه بأنها متكاملة؛ حزينة وساخرة انتقادية. ربما بسبب نشأتي، كان للأم تأثيرها الكبير عليّ، كذلك إخوتي الذين يكبرونني، كنت تحت رعاية الجميع، أعيش في منطقة وسط دمشق، علي مقربة من حارتي، المكتبات بواجهاتها العريضة وعشرات الكتب العربية في “مكتبة دار اليقظة” والأجنبية في “المكتبة العمومية”، تخطف البصر بأغلفتها الملونة، عدا عن قربي من المركز الثقافي وما يحتويه من كتب لليافعين والكبار، سرعان ما قرأت وأنا لم أتجاوز الحادية عشرة من عمري كتب اليافعين. في العام التالي انتقلت إلى كتب الكبار وسط أمارات الدهشة من المترددين على المكتبة. أستطيع القول إن مطالعاتي خاصة في العطلة الصيفية كانت تغطي دوام المركز الصباحي والمسائي بالكامل. قرأت الروايات المصرية وأعتقد جميع ما وجدته من روايات وقصص الكتاب المصريين، خاصة ما كتبه يوسف السباعي واحسان عبدالقدوس، كذلك نجيب محفوظ في ذلك الوقت، وأيضا جميع الروايات المترجمة، تلك كانت ذخيرتي والتي لم أكف عن متابعة مؤلفيها وأتعرف على غيرهم. كانت هناك هوايات كثيرة متوفرة، لكنني انسحبت من الرياضة وغيرها، وغرقت في الأدب. وأتصور أنني لم أكن أفكر وأتخيل إلا من خلال ذخيرة تتزايد يوميًا، مثلما أصبحت فيما بعد أفكر روائيا.
أصوات المجتمع
الجديد: أعتقد أن الأدب والرواية هما أفضل طريقة لفهم ما يحدث في المجتمع. لأن الأمر كله يتعلق بالناس. أتذكر العديد من الروايات التي قرأناها في المدرسة الثانوية. كانوا يخبروننا عن معاناة الناس الذين يعيشون في بلدان أخرى ونضالاتهم. تعرّفنا على شعوب هذه الدول ليس في الأخبار التلفزيونية أو المقالات السياسية، بل في الروايات. على سبيل المثال رواية “الأم” لماكسيم غوركي.
فواز حداد: هذا صحيح، تزداد معرفتنا بالمجتمعات الأخرى من خلال الرواية، ويمكن تفهم ثقافاتها في العمق، وطرائق تفكيرها، وأساليب حياتها المتنوعة. عندما جئت إلى بريطانيا لم أشعر بغربة على الإطلاق، كنت قد واكبت الرواية الإنجليزية زمنا طويلا، جين أوستن وهنري فيلدنغ وتشارلز ديكنز، جيمس جويس وفرجينيا وولف وسومرست موم وجراهام جرين وميرودخ وآلي سميث، وعشرات غيرهم، كأنما كنت أتحرك فوق أرض لا أجهلها، وبشر قابلتهم من قبل.
كذلك، لو ذهبت إلى أميركا، فسوف تساعدني قراءاتي لملفل وفولكنر وشتاينبك وكابوتى وروث، وأيضآ الأمر نفسه في ألمانيا وتركيا واليابان، وأميركا اللاتينية، مئات الروايات عبرت بي إلى هذه البلدان، فما بالك عندما ذهبت إلى القاهرة، مزودا بحارات وشخصيات روايات نجيب محفوظ؟ لم أعد سوى واحد منهم.
الرواية تكسر الحواجز، إلا إذا أردنا العيش غرباء في عالم واحد، وفي ظل عداوات مستحكمة وتنازع على المصالح. للأسف، لا يعرف الآخر شيئا عنا، بينما نحن نعرفه. لماذا يُترجِم كتبنا، ما دام لا يرغب إلا في أن يجهلنا؟
بالمناسبة حتى بعد مرور عشر سنوات على حرب ودمار وضحايا لا تقل عن مليون ضحية وتهجير سبعة ملايين، ونزوح ستة ملايين في الداخل، لم تستفز ثقافة الغرب ترجمة ما يخص هذه المأساة ليتعرفوا على ما جرى من خلالنا، لكنهم ينتقون روائيين يكتبون عمّا يلائمهم، لا يوجّهون الاتهام إلى المجرم، بل يكتبون عن ضحايا مجهولين وقتلة مجهولين وقاتل مجهول، متذرعين بالإنسانية، بينما هو استثمار للضحايا.
المطلوب أن يقلد الروائي العربي الرواية الغربية، ويوغل في الجنس والمثلية، لكنهما ليسا كل شيء. وتشترط دور النشر أن تكون الرواية بالحجم الوسط، مائتي صفحة تزيد قليلا، لا روايات ضخمة، خاصة إذا كانت الرواية من العالم الثالث. القارئ الغربي ملول من قضايا الآخرين، تحت زعم أن الروايات الضخمة يبرعون بها، مهما كانت، بالنسبة إليهم مشوقة.
بحث في المصير
الجديد: لديك إنتاجية كبيرة في هذا الصدد. في نقل تجارب الشعب السوري. هذا من أكثر الأشياء التي أثارت إعجابي بك. لقد كتبت 6 روايات منذ عام 2010. هذا رقم كبير حقًا. خاصة بالنظر إلى صعوبة كتابة الرواية. أتساءل كم ساعة تعمل في اليوم؟
فواز حداد: نعم. كتبت منذ عام 2010 ست روايات، فلنقل لديّ مادة وفيرة أتأملها وأفكر فيها، الواقع يحرضني والعالم أيضًا، نعيش على تماس مع أزمتنا، وعلى تماس مع العالم. أزمتنا كانت كارثة حقيقية. هذه المتغيّرات المرعبة حافز كي ننظر إليها في العمق، أسبابها ومآلاتها، وعلاقتها بالعالم والإنسانية. ونتساءل ماذا عن مصائرنا؟ وماذا عن هذه الحياة؟ نحن نعيش في الموت، فلماذا نكتب عن السعادة؟ سنكتب عنا نحن كبشر، في الوقت الذي ينظر إلينا العالم على أننا لسنا بشرًا، لمجرّد أننا أصبحنا لاجئين على أبوابه. تحكم الغرب نظرة اختلقها، وهي أن العرب إرهابيون، وارتاح إليها، الغرب يستهويه التصنيف أيضًا، إنه مريح.
طقوس الكتابة
الجديد: ماذا عن الطقوس التي تمارسها عند الكتابة؟ وهل ثمّة قاعدة أو قواعد محددة في كتابتك الإبداعية؟
فواز حداد: أكتب صباحا حتى الظهر، أجلس وراء الطاولة، وخلفي شيء صالح لأستند إليه، لكن لا بد من وجود نافذة تشعرني أنني على اتصال بشيء ما، أكتب وأراجع كثيرا، ربما عشرات المرات، بعد إنجاز المسودة الأولى، أعيد كتابتها لا أقل من عشر مرات وربما ما يزيد عن خمس عشرة مرة. لست في معزل عن العالم، أنا في قلبه وعلى اتصال به. أعمل يوميا، نادرا ما يمر يوم واحد من دون أن أكتب، أنا في حالة كتابة دائمة، ليست هواية ولا غواية، إنها أسلوب حياة وعيش.
لست مؤرخاً
الجديد: هل يمكن تصنيف رواياتك التي تتابع فيها التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية في سوريا على أنها “روايات تاريخية”؟ هل يمكن أن نعتبر رواياتك وثائق اجتماعية بلغة الأدب لقراءة جميع جوانب التاريخ السوري المعاصر؟
فواز حداد: أكتب عن البشر في التاريخ، وهذا العصر الذي نعيشه، لن أستعير أزمنة الآخرين إلا بقدر صلتها بعصري، أريد من رواياتي أن تقدم الحياة في مشهد كبير وعريض يهتم بالإنسان وإشكالاته وأزماته المادية والروحية، قلقه ومخاوفه، نحن نعيش في عصر مضطرب، فلماذا لا تكون حياتنا مضطربة، ما دام جنون الطغاة وحماقاتهم تنعكس علينا.
منذ بداية مسيرتي الروائية كان قراري أننا نحن الروائيين العرب يجب أن نكتب رواياتنا، إن لم نكتبها نحن، لن يتبرع غيرنا بكتابتها عنا، ولن يكون أمينا لو حاول، لا نريد المزيد من التشويه، إن كانت مأساة فهي مأساتنا، إنها مأساة وجودية، نحن نصارع العسكر والظلام معًا.
أنا لست مؤرخا، وليس بوسعي أن أكونه، مع أنني آخذ التاريخ بالاعتبار، كل لحظة نعيشها تمضي إلى التاريخ، وتصبح جزءا منه، شئنا أو أبينا، فالتاريخ حاضر، يستمر من خلالنا، ومن الجبن والخيانة القطيعة معه، مهما كان، لن نسيطر عليه، ونختط طريقنا إلى المستقبل إلا بقيامتنا.
أدب لم يقرأ!
الجديد: اليوم ، يقع الشعب السوري ضحية واحدة من أكبر المآسي في التاريخ. أعلم أن معظم الكتاب السوريين يعيشون في المنفى. هل تعتقد أن هؤلاء الكتاب لديهم القوة الكافية لإعلان مأساة سوريا للعالم؟ وكيف تجد الأعمال الأدبية التي تم إنتاجها خاصة في السنوات العشر الماضية؟
فواز حداد: للأسف، العالم لا يقرأ، ولا يريد، خلال هذه الفترة، كُتبت مئات آلاف المقالات والأبحاث والدراسات، وصدرت عشرات الكتب، عسى العالم يعرف، لاسيما وقد كانت المأساة السورية خبرًا يوميًا في وسائل الإعلام، تتجدد كل لحظة على إيقاع القصف والنزوح والموت. كذلك صدرت خلالها أعمال روائية وقصصية نحو خمسمئة بعضها لا تزيد عن شهادات روائية، وبعضها توثيقية، كتّاب يسردون ما حصل معهم أو ما كانوا شاهدين عليه، تجارب شخصية مؤلمة وحارة.. وبعضها روايات لروائيين يدركون ماهية الفن الروائي يكتبون بإخلاص عن الجحيم المندلع في أرجاء سوريا، ما الذي ترجم منها إلى لغات العالم؟ أكاد أقول لا شيء، بالمقابل هناك تفاهات روائية روّج لها على أنها تعبير عن الثورة.
تياران
الجديد: خلال السنوات العشر الماضية ظهر تياران من الكتابة الإبداعية العربية، أحدهما سافر مع الثورات المطالبة بالحرية والديمقراطية، وتمسك تيار آخر بالموقف الذي قدمته علاقته بالاستبداد والأنظمة السائدة. ما طبيعة هذا الانقسام من وجهة نظرك وهل له تفسير يتجاوز الجمالية السياسية والأدبية والثقافية؟
فواز حداد: هذه المواقف لا علاقة لها بالجماليات الأدبية. إنها مواقف مبنية على المصلحة والسياسة، هناك مثقفون منتفعون من الأنظمة، وهي فرصة ليحصلوا على المكاسب، ومثقفون تابعون لأحزابهم، منهم يساريون اختاروا الاعتقاد بأن النظام ضد أميركا، فانحازوا إليه، وهناك من يعتقدون بالدور الإيراني فتحالفوا معه، وهم يدركون جميعا أنهم ضد شعوبهم، فزعموا أن الشعوب جاهلة. أما المثقفون الذين يدركون معنى الثقافة، وأدوارهم في الحياة، فوقفوا مع الناس في صراعهم ضد الطغيان، مع أنهم وقفوا ضد مصالحهم، وفقدوا وظائفهم ومصدر عيشهم. تلك هي الثقافة الحقيقية، في سوريا اليوم، ليس هناك أوضح من هذا الصراع، لا حياد ولا مواقف رمادية، الحق جليّ، والباطل جليّ.
الرواية والترجمة
الجديد: لديك رواية مترجمة إلى الألمانية لكن لا نجد لك روايات في الإنكليزية والفرنسية فضلا عن التركية واليونانية.. لماذا تأخرت ترجمة أعمالك إلى لغات أخرى في حين نجد أن بعض الروائيين السوريين ممن هم أقل قوة أدبية وحضوراً لدى القارئ السوري والعربي حاضرين في الترجمة على أكثر من لغة؟
فواز حداد: إنها قصة علاقات شخصية وقنوات سرية، لا أهمية الكتاب ولا الكاتب، هناك جهات لها مصلحة في ترشيح هذا والتعتيم على ذاك، حتى أنهم مستعدون لإعادة صياغة الكتاب ليبدو مقبولا للتر جمة. السؤال يجب أن يتوجه إليهم.
كما أن هناك تشددا مبالغا فيه، من دور النشر البريطانية والفرنسية، لا يعتقدون أن هناك أدبا في سوريا، أو يريدون من الكاتب تمويل عمله، أو يجب أن تكون الرواية قصيرة، أو أن يدفع ثمن الترجمة، هذا إذا كان الكتاب جيدا. بينما هناك اعمال موّلت بآلاف الدولارات من أجل أن تترجم. هل يعتقدون أن الكاتب السوري اللاجئ لديه عشرة آلاف دولار يدفعها لقاء ترجمة ونشر كتابه ، ثم ليرمى في المستودعات، هذا إذا نشر؟ عادة يرفضون من دون الاطلاع على العمل أو لمجرد أن الكاتب سوري.
بالنسبة إلى كتابي المترجم إلى الألمانية قرأه المترجم الدكتور غونتر أورت وأعجب به، وعرضه على دار النشر أوفباو، فاطلعوا عليه، مع صدوره مولوا جولة في ثلاثة بلدان، ألمانيا والنمسا وسويسرا، وكانت ردود الفعل في الصحافة ممتازة. وأعيد طبعه بنسخة ورقية. ذلك هو الطريق الصحيح لاختيار كتاب للترجمة، لا أن يقف الكاتب على أبواب دور النشر، تلك مسؤوليتها، إذا أرادوا الاهتمام بما ينشر في دول يجهلونها، وليس بوساطات من مافيات نشر الروايات المترجمة التي احتكرت هذه المهمات الثقافية.
الجديد: نتطلع إلى قراءة رواياتك باللغة التركية في أسرع وقت ممكن.
فواز حداد: هذا ما آمله، وأرغب فيه. أمنية عسى تتحقق.
روائيون من العالم
الجديد: ما هي روايات الأدب العالمي التي تحب قراءتها؟ أنا متأكد من أننا قرأنا الكثير من الأسماء الشائعة، وهذا يبدو مثيرًا للغاية بالنسبة إليّ.
فواز حداد: على سبيل المثال، بلزاك، ستاندال، ديكنز، توماس مان، إديث وارتون، فوكنر، إيريس ميردوخ، روث، أوستر، وجراهام جرين، في العقود الأخيرة ماركيز، أما نجيب محفوظ فقد قرأت كل كلمة كتبها، إنه أستاذ ومعلم كبير، لقد استفدت منه كثيرًا.
في الواقع أعجب بالكثير من الروائيين، دائما ما أجد شيئا يلفت اهتمامي بقوة، أهتم بالروائيين الذين أسمع بهم لأول مرة. أبدو وكأنني مكتشف مواهب، وإن كنت متشددا في أحكامي.
أقرأ دونما تحديد، أقرأ لأعيش أكثر من حياة، ربما مئات وآلاف الحيوات، القراءة عندي متعة وتعلم ودرس وعبرة وتذوق للجمال والأفكار، إنها على علاقة بالروح.. وتضج بالحياة، ما يجعلني أدرك أن هناك أكثر من واقع وتاريخ، ونحن متشابهون أيضًا إلى حد أنني هم، وهم أنا، وأنني في هذا العالم لست وحيدا ولا مهمشا، ما دمت على صلة بهذا العالم الروائي الغني. كان يثري واقعي، وأرغب في المساهمة فيه.
الجديد: هل هناك رسالة تريد أن توجهها للقراء الأتراك؟
فواز حداد: نحن نعرفكم، ربما ليس بالقدر الكافي، أريد التعرف إليكم أكثر، بقدر ما أحس أنني قريب منكم، وأنتم لستم بعيدين عني. الكتب بوسعها أن تسهم بالتقارب بيننا، وأعتقد أنها تتم بشكل حسن من دون أفكار مسبقة، وإذا كان، فيمكن تصحيحها. إنها الجغرافيا. ليس أننا جيران فقط، بل أقرباء أيضا، الكثير من العائلات في سوريا أصولها تركية، لا تخفيها أسماؤهم، ولا ذلك التأثر والتأثير المتبادل بيننا، في العادات والتقاليد والطعام. بالمناسبة أنا من منطقة سوق ساروجة في دمشق، وتدعى إسطنبول الصغيرة، لأنها تشبه إسطنبول. زرت تركيا وأحببتها، أحسست بأنني لم أغادر بلدي، شعرت بالألفة بين معالمها، وفي حاراتها ومساجدها. منذ وطأت أرضها، أحسست أنها بلدي أيضًا.
هناك ما ينبغي قوله لأصدقائنا الأتراك، إن الذين لجأوا إليكم هاربين من الموت، لديهم بيوت وأراض وحقول وأعمال ووظائف اضطروا إلى تركها نجاة بأرواحهم، في انتظار العدالة الدولية، ما حل بهم كان من جراء نظام مجرم، بمساعدة الروس والنظام الطائفي الإيراني وميليشياته المذهبية. دعونا نشعر أنكم إخوتنا في الإنسانية، دعونا نستعيد هذه الروابط بيننا، ليست كلاما يقال، إنها حقيقية كحقيقة هذه الأرض والإنسانية التي تجمع بيننا.