أحبط صدور الحكم في قضية الحريري اللبنانيين، ولم يقلّ إحباط السوريين عنهم، أصابهم بصدمة ستطول وتمتد وتغير الكثير من توقعاتهم. هذا الحكم كان يعني الكثير بالنسبة إليهم، لمجرد اعتقادهم أن العدالة ستأخذ مجراها أخيراً، مع أنها تأخرت كثيراً. كان الأمل أنها قادمة، بل وحُدد لها موعد في18 آب، 2020، بعد مضي خمس عشرة عاماً على وقوع جريمة اغتيال الحريري، والتي أودت أيضاً بحياة 21 شخصاً غيره.
لم يعرف السوريون أن العدالة الجنائية الدولية، تختلف عن العدالة كما يتصورونها، أي الاقتصاص من المجرم مهما طال الزمن، لكن شتان بينهما، مثلما العدالة السماوية تختلف عن العدالة الأرضية، فالسماوية لا مهرب منها، بينما الأرضية لا يعدم المجرم الوسائل للتهرب منها، بل ومن الممكن التحايل عليها، والبرهنة بالأدلة على البراءة. أخطأ السوريون حينما اعتقدوا ألا نجاة من العدالة الدولية، خاب ظنهم إنها صناعة أرضية لا علاقة لها بالسماء، وهي بالسياسة ألصق، حيث تضيع الحقوق.
كان الحكم مخيباً، وأقرب إلى المهزلة، فالتحقيقات التي طالت أربعة أشخاص، برأت ثلاثة بالإجماع، وأدانت الرابع، لن تظفر به العدالة، فهو لن يسلم ولن يستسلم، أهالي بلدته يحتفون بابنهم المقاوم، الذي حمل مسؤولية الجريمة على عاتقه عن حزبه، وحمى الدولة التي أصدرت أمر الاغتيال، والدولة التي أفتت به، مع أنهما لم توفرا وسيلة من أجهزة مخابراتهما، إلا ووُظفت لإنجازه على أكمل وجه، بينما الحكم لم يتطرق إليهما، ولو أنهما فاعلان أصليان، إلا بشبهات غير مؤكدة، مع اعتراف المحكمة بأن الاغتيال تم لأسباب سياسية، وإذا كان قد نالهما اتهام رمزي، فلا يزيد عن تلميح غير قطعي، فالتبرئة حصلت بالنسبة للمجتمع الدولي، لكن ماذا عن الضحايا؟ لا شيء، طالما المحكمة هذه حدودها.
خلق صدور الحكم واقعاً لا يمكن تجاوزه، بتأكيده على عدم وجود دليل على مسؤولية قيادتي حزب الله وسوريا، ما يدلنا على أن الواقع القضائي أقوى من الحقيقة، حتى لو كانت واضحة وضوح الشمس، وإن كانت الأغلبية العظمى من اللبنانيين والسوريين تعرف الفاعل الحقيقي من واقع معاناتهم من النظام السوري طوال عقود، ولا تجهل وسائلهما في معالجة المعارضين بالسجون والقتل، من لا يعرف مسلسل الاغتيالات الذي أعقب مقتل الحريري؟
ربما أراح هذا الحكم بعض اللبنانيين، أملاه النظر السديد وحسابات الواقع، لو ثبت أن المتهم هو حزب الله فسوف يطيح بالتوازن اللبناني الهش والتركيبة اللبنانية الأكثر هشاشة، بل ولبنان كلها، فالقاتل يملك السلاح والدولة معاً، ولديه حاضنة شعبية مذهبية لا تتخلى عنه ولو ثبت ارتكابه الجريمة، وإذا اعتذر عنها، فعلى أنها جريمة اضطر إليها بعض مناصريه، حتى أن بعض الدول تميل إلى هذا الرأي، هذا ما أظهرته مخاوفها على لبنان.
أما السوريون الذين أصيبوا بالإحباط، فالأمر مختلف تماماً، فالعدالة المرتقبة المعول عليها، ظهر أنها غير عادلة، إنها بشكل ما تساعد المجرم على الإفلات من جريمته، وتمنحه صكاً قضائياً بالبراءة، ما يعني أن السوريين إذا نجحوا في تحريك قضيتهم، لن يظفروا بالعدالة حتى بعد خمس عشرة عاما، فالعدالة ليست بطيئة ولا باردة فقط، وإنما لن تنصفهم أيضاً على الرغم من مليون قتيل وسبعة ملايين لاجئ، وأربعة ملايين نازح في الداخل السوري، وعشرات الآلاف من المعتقلين طالبوا بالحرية، أو صادف وجودهم في المكان الخطأ، ومعارضين مغيبين قسريا، ومفقودين ربما كانوا في القبور، النظام لا يعترف بوجودهم فوق الأرض ولا تحتها، وآلاف المعوقين والأرامل والثكالى والأطفال اليتامى … ولن تثبت شيئاً آلاف الصور لآلاف البشر الذين قتلوا تحت التعذيب أو بسبب الظروف السيئة التي احتجزوا فيها وأدت الى موتهم، ولا الضربات الكيماوية التي قتلت في ضربة واحدة ١٤٠٠ إنسان أغلبهم من الأطفال، ولا البراميل المتفجرة التي ألقيت فوق المشافي والمستوصفات والأفران والأسواق وبيوت المدنيين، حتى أن عائلات بكاملها دفنت تحت الركام. كل هذه الجرائم لن يكون لها فاعل، ما دام الضحايا سيعتبرون من الإرهابيين، وإذا كان قد حصل تجاوز، فالدولة شخص اعتباري، لا توضع في سجن، ولا تحاكم أصلاً.
هل المجتمع الدولي عاجز عن السماح للعدالة بأن تعمل؟ لا تنتظر الدول الكبرى المحاكم، تتصرف وحدها، ترتكب جرائمها أو تثأر لقتلاها، فتحقق عدالتها، كل هذا بالقوة، فالتحالف الدولي ما زال يلاحق فلول داعش من مكان لآخر. هل جرائم النظام أقل من داعش؟ بالمقارنة يتفوق النظام بالقتل بالجملة، ووحشيته لا أقل من داعش. أما المسؤول، فلا حاجة لملاحقته، ولا جمع أدلة تثبت جرائمه، ففي خطاب متلفز ألقي في مجلس الشعب أعلن الحرب على الشعب.
من فرط اليأس، جاء وقت رضي السوريون بعدالة منقوصة، لم يكن لديهم مانع بعدالة روسية، اعتقدوا أن الرئيس الروسي بوتين سيعمل على ترحيل رؤوس النظام مع ملياراتهم، يتمتعون بها في المنتجعات الساحلية وجزر اللهو والترف، ويريح سوريا منهم، وإن تركوا الناس لأقدارها مع الغلاء والفقر والجوع واقتصاد منهار، وجائحة الكورونا تنغل فيهم بلا وقاية أو حماية أو دواء، وأصبحوا يدفنون موتاهم في المقابر الجماعية، ولا تسلم جثثهم لأهاليهم لدفنهم في مقابر العائلة، إلا بالرشوة.
كم أن الحياة رخيصة، وكم أن الموت مكلف!!
يمكن قول الكثير في ذمّ العدالة، طالما أنها تساير القاتل، يكفي القول إنها مستحيلة، والأسوأ ألا يكون هناك أمل منها في حال كانت دولية، بينما السماوية في العالم الآخر. إذاً لا مفر من صناعتها محلياً، ما يضمن إنصاف الضحايا، لكن لا بداية لعدالة حقيقية إلا في وحدة السوريين.
-
المصدر :
- الناس نيوز