بالعودة إلى الزمن الذي اعتقد فيه البشر أن عالمًا جديدًا على وشك البزوغ بعد انتهاء النزاع الشيوعي والرأسمالي، وذلك حين بدا أن روسيا الشيوعية قد طواها التاريخ بعد تجربة حاولت فيها تغيير العالم كله، وبدء مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية.
روسيا القديمة ما زالت، رغم أنها انتهت. كانت المخابرات الأجهزة الوحيدة التي حافظت على تماسكها، وأخذت على عاتقها تنظيم الانحلال التدريجي للاتحاد السوفييتي ومعه كتلة بلدان الاشتراكيات الأوروبية. هذا التحالف لم يتحلل بين ليلة وضحاها، بل استمر زمنًا طويلا. وكان باستبعاد سياسيين، واستعادة سياسيين إلى الواجهة قادرين على القيام بمهام المرحلة التالية، ولم تكن قد اتضحت بعد.
بينما كان رجالات مراكز القوى في الأحزاب الشيوعية يتخوفون من الانهيار القادم الذي لا مفر منه، على أمل عدم انعطاف بلدانهم فجأة نحو الرأسمالية، بل من خلال عملية سلسلة توفر سقوطًا مفجعًا، بحيث يبدو السقوط تساقطًا عاديًا، حان أوانه، ما يقلل قدر الإمكان من كارثة لا مفر منها.
لم يخف على مراقبين، أنه منذ مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي، كان العديد من القادة السياسيين الشيوعيين، يقومون بتهريب كميات كبيرة من الأموال إلى الجانب الآخر من الستار الحديدي، وكأن الحرب الباردة التي بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قد انتهت، أو أصبحت بلا مفعول. في ذلك الوقت، أخذت البنوك السويسرية، والغربية عمومًا، تستقبل على الرحب والسعة، تدفق الأموال مع كافة الاشتراطات المرعية في المحافظة على سرية حسابات الأموال المنهوبة من بلاد كانت على وشك معاناة من صعوبات اقتصادية جراء تحويل ملايين العملات المتنوعة عبر قنوات طويلة ومعقدة، أموال بدت وكأن لا صاحب لها سوى الموكلين بالحفاظ عليها وتسريبها.
لم يحل عقد الثمانينيات من القرن الماضي، حتى بدا الخطر جليًا، هجرة الأموال في ازدياد نحو البلدان الغربية من الجمهوريات التي ستصبح غير اشتراكية في القريب العاجل. كان التحضير للمستقبل الغامض على قدم وساق، بينما كانت الشعوب غافلة عما يجري. وهكذا ما إن انهارت السلطة السياسية، حتى تخلى عنها أصحاب المناصب الكبيرة، كي يستولوا بكل بساطة على السلطة الاقتصادية، ذات الفعالية الكبيرة في إطار سياسات العولمة واقتصاد السوق، ذلك هو المستقبل.
هل روسيا التي هي اليوم دولة مافياوية، سوف تكون نظيفة اليدين في سوريا، وإذا كانت تراعي بعض المظاهر الديمقراطية، فهي لا تخدع أحدًا، فالتراث الستاليني ما زال حاضرًا
بينما كان رجال الظل من رجالات المخابرات الكبار ومعهم وصوليون وعملاء، ينتهزون زمانهم في تأهيل أنفسهم لأدوار وطنية جديدة، خالية من العصاب الاشتراكي. لم يكن هناك اهتمام بأدوار سياسية عاجلة، فالانتظار أجدى، الأدوار الفاعلة كانت تلك التي تدر المكاسب، وكان في السيطرة على عالم الجريمة، والمسارعة في بناء شبكاتها داخل البلاد وخارجها، فالمثال النموذجي كان جاهزًا، إنه المافيا.
وهكذا، ما بدا أنه حدث بين ليلة وضحاها، لم يكن إلا تحت تأثير انبعاث طاقم من السياسيين وخلفهم طاقم مخابراتي، ومافيا تعددت إلى مافيات أخطبوطية، حملوا أعباء العالم الجديد، فالاشتراكية ماتت وأهلا وسهلا بالرأسمالية، نحن رأسماليون، وسرعان ما أثبتوا أنهم ديمقراطيون وليبراليون وضد الاستبداد. ولبس الطغاة القدامى حلة قشيبة مع صناديق الانتخاب. أما حرية الرأي، فكانت ضد العهد القديم، لم يكن هناك أسرار، سيحاسبون الأموات، ولا يحاسبون الأحياء من رجال العهد البائد، كانوا هم أنفسهم، فلم تقم مشانق ولا إعدامات ولا محاكمات. ما أعظم هذه الديمقراطية المتسامحة مع ماض استمر سبعون عاما، فوق جثث ملايين القتلى وملايين المهجرين إلى سيبيريا وأوطان قاحلة.. أليس هؤلاء أحفاد أولئك؟ وكأن هذه الجرائم لا فاعل لها، ما دام ستالين الميت قبل عشرين عاما، قادر على أن يحمل على عاتقه جرائم ثلاثة أرباع القرن، نعم ستالين يستطيع حملها بكل كفاءة، هكذا بلغت الثقة به.
من هؤلاء القادمون أصحاب القرار من رجال السياسة الجدد؟ بإجابة مختصرة كانوا في سوادهم الأعظم، من المخضرمين في جهاز الاستخبارات السوفييتية، وأجهزة البلدان الاشتراكية السابقة، في أوروبا الوسطى والشرقية، إنهم المتنفذون الذين استفادوا من سقوط الأنظمة القديمة.
فهل روسيا التي هي اليوم دولة مافياوية، سوف تكون نظيفة اليدين في سوريا، وإذا كانت تراعي بعض المظاهر الديمقراطية، فهي لا تخدع أحدًا، فالتراث الستاليني ما زال حاضرًا، كان الدكتاتور السابق يلاحق المعارضين في بلاد العالم ويغتالهم، وأشهر ضحاياه تروتسكي، واليوم بوتين يلاحق المعارضين يغتالهم أو يسممهم. فإذا كانت روسيا تهوى أن تكون بمظهر مزدوج ديمقراطية دكتاتورية، فالنظام السوري ليس بهذه الازدواجية، بل بوجه واحد؛ دكتاتورية مبطنة بمافيا لا يمكن لسواها تسيير مثل هكذا نظام فاسد.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا