خمسة أشهر أمضاها الروائي السوري فواز حداد، كي يسجل تجربته مع الرواية في كتاب صدر حديثاً عن دار “المحيط للنشر”، بعنوان “لقد مررت من هذا العصر”. ويقول إنه سرق هذا الوقت من الزمن بين رواية في اللحظات الأخيرة وأخرى تستعد للولادة. وهذا الوقت عادة ما يكون غير مستقر، انتقالي بين عالمين وعملين، ولا يصلح للتأمل بقدر ما يكرسه الكتاب للراحة، إلا أن حداد الذي يكتب بدأبٍ شديدٍ، وجدها الفرصة الوحيدة ليرد على طلب دار النشر بعدما راقت له الفكرة. وبعدما صدر الكتاب، حاز رضى الكاتب، ونال استحساناً لدى قرائه والنقاد الذين تناولوه، لكنه يبقى تمريناً جديراً بالعودة إليه في زمن لاحق بهدف اغنائه وتطويره وتسجيل الكثير من التفاصيل التي تهرب من ثقوب الوقت الضيق.

لا يعني هذا أن العمل من الوزن الخفيف، أو أن الكاتب يمر على تجربته على نحو سريع، بل هو جهد كبير غني، ويحيط بالكثير من الأسئلة بطريقة غير تقليدية، ويبدو دور دار النشر واضحاً في توجيه مجرى العمل، فلولا أنها وضعت المحاور وطرحت الأسئلة، وحددت المساحات، لكان العمل جاء في صورة أخرى وفق ما يرى فيها الكاتب نفسه من خلال المرآة. ويظهر أن دار النشر حددت للكاتب الزاوية التي عليه أن ينظر منها إلى نفسه، وهذا أمر بات معمولاً به في الغالبية العظمى من دور النشر الغربية، التي تتدخّل بقوة لتوجيه العمل، بما في ذلك الرواية التي تخضع لتحرير من دار النشر، يجنبها الكثير من المشاكل لجهة البناء واللغة وإدارة الشخصيات وترتيب الأحداث.

يسلّط حداد الضوء على تجربته الروائية، كما لو أنّه يكتب رواية جديدة، وربما هذا هو السبب الذي يقف وراء سرعة الإنجاز في خمسة أشهر، فهو لم يحتج إلى تقنية وأسلوب جديدين كي يسجل شهادته عن نفسه، بل تعامل مع تجربته هذه، بوصفها عملاً روائياً، وهذا ما جعل من هذا الكتاب سهل التناول والقراءة، ومنحه جاذبية عمل سردي متقن يمتلك عناصر المتعة والتشويق والتنوع.

ينضج الروائي متأخراً، هذه هي الخلاصة الأولى والأساسية، من كاتب أمضى ثلاثة عقود في الكتابة، تصلح مسوغاً لزمن عاشه وانخرط فيه، ولم يصرف نظره عنه، بل حاول أن يكتب ما حدث وتفاعل فيه، وكي يفهم العالم والعصر الذي تحققت رغبته بالكتابة عنه بشكل روائي، وانصرف في الربع الأخير للكتابة عن الربيع العربي الدامي، الذي منحه الأمل والوعد رغم الألم واليأس.

يفكر الكاتب بأكثر من هدف حين يتلقّى السؤال. العدالة، الحرية، الصراع الطبقي، مناجاة المطلق. إذا لم تمنحه الكتابة دافعاً، فسوف تمنحه معنى أو خلاصاً يبحث عنه. وقد يزعم أنه شاهد على عصره، أو مناضل ضد السلطات السياسية والاجتماعية والدينية. قد تكون هذه هي الأجوبة، وربما غيرها، لأن “للرواية سلطة”، والبوصلة لغز باق يطلب المزيد من المعرفة. وبالتالي لا يفكر الكاتب بجواب نهائي، لقد وجد نفسه يكتب، أي مدفوعاً للكتابة، والرواية، مهما كانت، “امتحان عسير عن سؤال غامض”.

جواب لماذا تكتب؟ متوافر، ويسير، لكنه بحاجة إلى إدراكه، ومن غير الصعب الإجابة على سؤال لماذا أصبحت روائياً، لكن لماذا الرواية؟ يظل سؤالاً بلا جواب نهائي. ومهما يكن من أمر، فالرواية تساهم في تغيير العالم، ولا تحتاج إلى أكثر من قلم وورقة، قياساً إلى العمل في الإخراج السينمائي الذي يحتاج إلى إمكانات مادية، ولهذا لم تكن الرواية خياراً، بقدر ما كانت قدراً وورطة تستدعي لحظات عزيزة في الولادة الأولى رواية “موزاييك دمشق 39” التي هي إدراك لما تعنيه الكتابة، بمثابة منحة تأتي بعد طول انتظار واكتشاف الأسلوب الذي يعني طرائق صناعة الرواية. ومن الرواية الأولى، يبدأ الروائي التعلم بأن كل رواية فرصة لا تتكرّر، وإن في إعادة الكتابة يزداد التركيز والوعي بالعمل وأكثر من هذا هو التعايش مع الشخصيات، وأن الإخلاص ضرورة تستحيل الكتابة من دونه. ومع ذلك تبدو الرواية الثانية “تياترو 1969” أصعب من الأولى، إلا أنها أقنعت الكاتب بأنه أصبح روائياً بالفعل.

وسيعاني اليأس مرات عديدة، قبل أن يجد طريقه إلى الرواية المقبلة. بل عانى حتى الرواية الثالثة “صورة الروائي” حتى تتراجع هواجس اليأس والإحباط، وسط استقبال إعلامي فاتر جداً، واعتبر البعض الرواية الأولى سياحية والثاني تاريخية. في وقت لا تعد الرواية للكاتب مهنة، بل حياة.

والمسألة التي تستوقفنا في هذا الكتاب هي نقطة البداية في كتابة العمل الروائي. واللافت هو أن حداد يقول إنه يبدأ دائماً من الصفر. وقد تولد الرواية من منظر عابر كما هي “موازييك”. لا خريطة طريق ولا معلومات مسبقة. يبحر في رحلة بحث من أجل العثور على الإبرة في كومة القش، ويواصل مشواره الطويل وهو لا يعرف “ما سيحدث في الصفحة التالية”، وذلك في وقت يعاني من تدفق الخيال الذي يعمل على ضبطه كي لا يأخذه بعيداً من الرواية. لكن كل شيء مرتبط باللحظة الروائية “التي تكون واضحة كالشمس تظهر على الورق، لكنها تأتي على حين غرة”. وهكذا يبدو أن عدم الاستعانة بمخطط مسبق يجعل من الرواية ساحة مفتوحة وكل فصل منها ينفتح على الفصل الذي يليه.

الرواية السياسية محطة أساسية في تجربة السيرة الروائية لدى حداد، الذي كرس أعماله في العقد الأخير للثورة السورية وأنجز حتى الآن “السوريون الأعداء”، “يوم الحساب”، “تفسير اللاشيء”، وهناك رواية ضخمة في الخواتيم باسم “النظام”. ويرد هنا على الآراء التي تعتبر أنه اتجه كلياً للرواية السياسية بقوله: “منذ البدايات لم تتجاهل رواياتي الواقع السياسي”، ويعتبر الانحياز إلى رواية نظيفة من السياسة بمثابة اتهام له.

يعد الكتاب شهادة مهمة وضرورية من كاتب باتت له بصمة خاصة في الرواية السورية خلال العقد الأخير، كونه تفرغ لكتابة سردية الثورة السورية كما لم يفعل أحد من كتاب الرواية السوريين، الذين أصدروا أعمالاً روائية تدور أحداثها خلال هذه الحقبة، أو ترجع إليها في تناول الشأن السوري الذي تشظى حتى بلوغ حد التراجيديا. وتعد هذه الشهادة جريئة بكل المقاييس لأن الحدث ما زال مستمراً ولم يصل إلى خواتيمه، ومن المبكر الخروج منه بخلاصات، وبالتالي فإن كسر هذه القاعدة يحتاج إلى طاقة إضافية.

الحديث عن التجربة الخاصة مع الكتابة عمل صعب وحساس، وقلّة هم الكتاب الذين مارسوا هذا التمرين المعقد. ومع أن الكاتب لديه الكثير من الدوافع للحديث عن تجربته، قد لا يجد من السهل الإجابة على سؤال الكتابة، لأنه يفرض على الكاتب امتحاناً صعباً يحتم عليه أن يرى نفسه في المرآة، ويقوم بدور الناقد لنفسه وتجربته ووضع كل ما لديه من أدوات على الطاولة، وهذا أمر ليس بالسهل ولا يجيده الكثير من الكتاب، ولذلك فإن كتب سيرة الأدبية قليلة لدى العرب وغير العرب، وقام بهذا الدور النقد الأدبي. لكنه في العالم العربي لم يبلغ مرحلة يمكن فيها الاعتماد عليه من أجل دراسة تجارب روائية مهمة، وباستثناء بعض الروائيين من ذوي القامات العالية مثل نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وحنا مينة، لم ينصف النقد العربي الرواية العربية التي عرفت انفجاراً كبيراً في العقدين الأخيرين، وصار لدينا كمّ كبير من الروايات والروائيين خارج دوائر الضوء، بل لا يعرفون تلافيف التجربة وتفاصيلها الدقيقة حسب تعبير حداد، ولذلك يتركون هذه المهمة للنقاد ومتتبعي الكتاب.

فكرة جيدة أن تطلب دار نشر من الكتاب أن يسجلوا سيرهم الأدبية، فهذا أمر من شأنه أن يفتح باباً على هذا النوع الجديد من الكتابة على مستوى العالم العربي، كما أنه يسهل مهمة النقد من خلال رفده بوسائل مساعدة أساسية لسبر عوالم الكاتب وتفكيك أسرار عمله وتقنياته ومراجعه الخاصة. ويقدم للقارئ مفاتيح أعمال الروائي ويساعده على فهم عالمه بصورة أفضل، ويزيد في ترويج أعمال الكاتب وتسويقه، وهذا في صلب أهداف دور النشر كمؤسسات تجارية.