فواز حداد للجزيرة نت: لا يمكن الكتابة بحرية إن لم تكن حرا في داخلك
يقول الروائي السوري فواز حداد إن كل كاتب لا يعدم الوسائل لتخطي الخطوط الحمراء. الأدباء الذين سبقونا، لم يقصروا، عارضوا ولم يرضخوا أو يستكينوا، ووجدوا السبل لكتابة قصصهم ورواياتهم، واصطدموا مع السلطة، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
يعتبر الكاتب والروائي السوري فواز حداد من أهم الروائيين العرب، الذين انشغلوا بالكتابة الروائية، وتخرج أعمال فواز منذ ولادتها الأولى باعتبارها وثيقة تاريخية، تقوم على نقل وتخييل أجزاء مطوّلة من التاريخ السوري المعاصر.
إن تفرد فواز حداد، تكمن في كونه يكتب رواية عالمة تستند إلى أرشيف تاريخي ضخم وإلى ركام من الأحداث والسياقات والفضاءات والشخصيات، التي لا تبتعد عن الواقع السوري، لا سيما إبان مرحلة الربيع العربي.
ومن أُتيحت له فرصة قراءة مشروعه الروائي الذي بلغ -حتى الآن- حوالي 15 رواية، سيكتشف ذلك الهمّ الكبير الذي يُميّز رواياته والمُتمثّل في استكناه التاريخ السوري، والدفاع عن الفرد وشرطه الإنساني في زمن الحرب والخراب.
رواية فواز حداد الجديدة “يوم الحساب” (2021) ضمن منشورات رياض الريس (الجزيرة)
بمناسبة صدور روايته الجديدة “يوم الحساب” (2021) ضمن منشورات رياض الريس، كانت -للجزيرة نت- هذه المقابلة مع الكاتب والروائي السوري.
من القصة إلى الرواية
أولا، ما الذي جعلك تتوقف عن كتابة القصة، أمام منجز روائي ضخم وصل الآن 15 رواية؟
ببساطة، تحتاج القصة إلى مهارات أفتقد إليها. وإذا كنت لم أتوافق معها، فذلك لأن رؤيتي للحياة تنجذب إلى مشهدية روائية من عدة خطوط، وأزمنة مختلفة، وأمكنة متنوعة. تمنحني الرواية حرية الحركة، وتسمح بدرجة من التعقيد تتناسب مع ما أريد التعبير عنه من أفكار وأحداث وشخصيات. مع هذا، حاولت في القصة وظفرت من تجربتي معها بمجموعة قصصية وحيدة عنوانها “الرسالة الأخيرة”.
ما حكاية الرقابة التي رافقت منجزك الروائي داخل دمشق وخارجها؟
أعزو إلى الرقابة تأخري في النشر، كتبت الكثير ولم أفكر بتنقيحه حتى أنشره، ما حاولت كتابته كان يتطرق إلى ما هو ممنوع، لم أستطع الكتابة عن عالم متخيل، أو تجاهل الواقع، وهو ما اعتقدت أنه يجب الكتابة عنه.
لم يكن هناك منفذ إلا بالعودة إلى سنوات ما قبل الاستقلال، فكانت “موزاييك 1939” عن زمن مضى، ثم “تياترو 1949”. بذلك كتبت عن عوالم حقيقية، ظهرت فيهما بوادر مجريات الأعوام اللاحقة، فلم تخف الموزاييك، جذور الضابط الانقلابي في جيش الشرق الفرنسي، ففي تلك الفترة طمح إلى القيام بانقلاب، ونفذ وعده عام 1949 مسجلًا أول تدخل للعسكر في السياسة.
هذان العملان اللذان شئت النجاة بواسطتهما من الرقابة، رسما في الوقت نفسه، بدايات مشروعي عن العصر الذي عشته مع مختلف تنويعاته الاجتماعية والفكرية والسياسية، أي عن حياتنا.
مع الرواية الثالثة “صورة الروائي” بدأ مسلسل المنع، فاضطررت من بعدها إلى النشر في بيروت، وإن نشرت “الضغينة والهوى” في دمشق. بعدها كان لقائي مع الناشر رياض الريس، ما طمأنني إلى ألا أحسب حسابا للرقابة، مع أن حرية النشر في لبنان لم تكن مضمونة لوجود الجيش السوري هناك آنئذ. فهي فرصة لم تكن لتنجح إلا باستغلالها في تحرري شخصيا.
لا يمكن الكتابة بحرية إن لم تكن حرا في داخلك، ولم تكن الكلفة كبيرة، لا أكثر من منع رواياتي في الداخل، مع تعمد تجاهلي. لكن لن يوفرني بعضهم مؤخرًا من الاتهامات بأنني طائفي وانعزالي، وربما إرهابي لتعاطفي مع سجناء تدمر، وكأنهم ليسوا بشرا. وأنني كتبت عن الثورة على أنها ثورة لا زلزال، ولم أخصص رواياتي لسردية النظام التي تزعم على أنها حرب ضد الإرهاب فقط. لم أهتم، فالذين انتقدوني كانوا في الخندق المقابل وإن زعموا الحياد، وهم من الأنواع التي ركبت موجة التقدم في أزمنة مخادعة، والآن يركبون موجة الطائفية على أنها الوطنية.
الإبداع والقمع
كيف يستطيع المبدع التحرر من هذا المرض المزمن الذي يعيق شكل الكتابة ويجعلها خاضعة لشروط وحدود وسياجات؟
عندما تخضع الكتابة للشروط والحدود والسياجات، أو مجرد مراعاتها، فنحن لا نكتب رواية، بل نظن أننا نكتبها، الرواية ساحة للحقيقة لا لأنصاف الحقائق، لم تعد الرواية حكاية فقط، بل حكاية تقول شيئا ما، ذات معمار ورؤية، إنها مغامرة خطرة لكن ليست في المجهول. تتيح لنا الرواية مجالا كبيرا للدفاع عن البشر، لا يجوز التنازل عنه ولا تضييعه.
كل كاتب لا يعدم الوسائل لتخطي الخطوط الحمراء، فالأدباء الذين سبقونا، لم يقصروا، عارضوا ولم يرضخوا أو يستكينوا، ووجدوا السبل لكتابة قصصهم ورواياتهم، واصطدموا مع السلطة، والأمثلة أكثر من أن تحصى، سعد الله ونوس، وممدوح عدوان، وهاني الراهب، ومحمد الماغوط، وزكريا تامر.. وغيرهم كثير.
واليوم عشرات من الأدباء خرجوا من سوريا كي يتمكنوا من الكتابة بحرية. كذلك أدباء في الداخل يكتبون بجرأة وحرارة، من دون استعراض ودعايات، رغم التضييق وحسابات الأمان، ويعانون ليقولوا كلمتهم من دون ادعاءات. في سوريا ليس هناك ألغاز. لقد استطاعت السلطة شراء بعض المثقفين، لكن من استطاعت شراءهم ليسوا مثقفين فعلًا، ما دام أنهم يقدمون الذرائع للسلطة كي تقتل وتسجن وتشرد.
هل تعتقد أن واقع الثقافة العربية واهتماماتها بالكتابة الروائية على حساب أجناس أدبية أخرى، كان عاملا مشجعا على ترك النص القصصي وارتياد عوالم السرد الروائي ومتخيله؟
هناك عدة أسباب، أحدها، تلعب المدينة الدور الأول بالكتابة عنها نظرا لما تحققه من اتساع يزجها في تعقيدات الحياة وتحولاتها، تطرح متناقضات الحياة وتشابكاتها مما يحرض الكاتب على التفاعل معها.
أما في الريف، فالطبيعة وقسوتها، والفقر وصعوبة الحياة وسهولتها في آن، تحفز على التأمل والكتابة عن حياة لصيقة بالإنسان. هناك كتاب عظام لم يخرجوا من بيئتهم الريفية، كشفوا عن ثراء الحياة المتحررة من الماديات.
ولا ننسى أن الريف هو الذي زود الأدب بالروائيين والقصاصين، والمثال المصري والسوري حاضر بقوة، قليلًا ما نصادف روائيين من المدينة، بينما نصادف عشرات القصاصين والروائيين جاؤوا من الريف، وأثروا الأدب والنقد والفكر.
بالنسبة للعالم العربي، أسهمت مؤخرا ترجمة الرواية العالمية إلى العربية في الانجذاب إليها، وفي السنوات الأخيرة لعبت الجوائز في تنشيط الكتابة الروائية، ولم يكن صحيا، حسب رأيي الشخصي، إذ المؤسف أن نهضة الرواية كانت على حساب الشعر والقصة، وهي خسارات حقيقية، لا مبرر لها.
رواية تهجس بالتاريخ
رواياتك الأخيرة يغلب عليها الطابع التاريخي الصرف، الذي يقوم على رصد الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية داخل التاريخ السوري المعاصر. كيف يستطيع القارئ التمييز بين الواقعي والتخييلي داخل رواياتك؟
ليس تحديد الزمن في الرواية هو الذي يحولها إلى رواية تاريخية أو معاصرة، انظر إلى الروايات الكبرى، لم تخل رواية من تحديد الزمن؛ دون كيشوت، الأحمر والأسود، البحث عن الزمن الضائع، روايات بلزاك، وفي عصرنا روايات فيليب روث… وغيرهم كثير. يحدد الزمن طبيعة البشر من خلال المجتمع والسياسة والمفاهيم. من جانب آخر، في رواياتي لا تمييز بين الواقع والتخييلي كل منهم يصب في الآخر، اعتبر التخييلي تكثيفا للواقع، بل وينوب عنه، ويساعد على كشفه.
ثمة أمر بالغ الأهمية في منجزك الروائي، ويكمن في قدرتك المدهشة على تخييل النص الروائي، بدل الركون إلى كتابة تتماهى مع التاريخ وعناصره، كما نعاين ذلك في بعض الروايات العربية السبعينية. كيف تأتى لك التعامل مع كتابة سردية للتاريخ السوري المعاصر على مستوى اللغة؟
هناك عدة مستويات للغة، يتميز كل منها عن الآخر بضرورة استعماله، بحيث يؤدي الغرض منه. اللغة ليست اعتباطا، وليست حسن تخلص، بل إنها أداة الروائي الأساسية التي يعبر بواسطتها، إنها الوسيلة للتعبير عن تمايزات لا يكون استيعابها إلا باستعمالها بأسلوب يؤدي إلى تجسيد الفكرة لغويًا، بحيث ينجح في تأدية المعنى وتوصيله، وهو العنصر المهم في القول وتفكير الشخصيات.
سوسيولوجيا الواقع
ماذا عن الواقع المباشر، هل تستطيع حيثياته وعناصره ونتوءاته التأثير على مخيّلة الروائي لحظة الكتابة؟
دائمًا ما يكون التأثير الأكبر للواقع المباشر، إذ تحت سطوته نناشد المستقبل، ونلتفت إلى الماضي، ونذهب إلى أحلام اليقظة، ولا شيء يردعه عن اقتحام أحلامنا الليلية. ومن الطبيعي أن يسهم في الخيال بالذات. إبان الكتابة، تتكاثف المؤثرات وتتكاثر، يصعب إحصاؤها، يسيطر الكاتب على بعضها، القسم الأعظم منها خارج السيطرة، بل ولا يمكن ضبطها من فرط تسارعها، ولو كان أحيانا لا يزيد عن محفز عابر.
كتبت كثيرا عن ثورات الربيع العربي، بحثا وتخييلا، بما يجعل هذه الكتابات الحفرية في طليعة الكتابات، التي قاربت الربيع العربي من منطلقات مختلفة وزوايا متباينة. إلى أي حد تستطيع الرواية احتضان كل ذلك الألم والأسى الذي شهدته الأوطان العربية منذ 2011 حتى الآن؟
ينتظر المؤرخ جلاء الثورات واستقرار الأوضاع، فيكتب عنها، لتأخذ مكانها في سردياته، بينما أخذ التوثيق مداه منذ بداية الربيع العربي، ولم يتوقف، فيلاحق أحداثه بشكل يومي. وكلاهما يتمتع بالبرود والعقلانية وبشكل حسابي ينحو إلى الدقة، هذا المفترض.
مهمة الرواية مختلفة تماما، أولًا لا يمكن الادعاء بعدم توافر معلومات، كما كان الزعم قبل ثورة الاتصالات؛ المصادر متوافرة حتى باتت تثقل كاهل الروائي، عدا ما يقع بمتناول بصره، وقد يكون مشاركًا فيه.
تعتني الرواية بزمن يضع البشر في المركز، ومن خلفهم المكان والصراعات وصراع الأفكار بمختلف أشكالها، وإرادة الحياة، وتجاذبات التاريخ نحو الصعود أو الانحدار. من كثافة هذا المزيج تتكون رؤية الروائي.
ما يجب إدراكه وعدم التخوف منه، هو أن الرواية منحازة لأن الروائي منحاز، وإلا لا مبرر لكتابة روايته، ففي النهاية يكتب رؤيته عن حدث كالثورة، كما اختبرها. والروائي رغم انحيازه، يتحلى بما أرغب في تسميته بـ”حياد الضمير”. وهو ما يعني مواجهة الحقيقة، وربما الاعتراف حتى بما هو ضد ما يعتقده.
رواية جديدة
صدر لك قبل أسابيع رواية جديدة بعنوان “يوم الحساب” (2021) وفيها تعود إلى دمشق من جديد. هل من الممكن أن ينسلخ هذا العمل الجديد عن الذي قبله، إذ إن دلالات العناوين توحي وكأنها امتداد لمشروع روائي ضخم يكاد ينتهي؟
إذا نظرنا لمشروعي الروائي فهو عبارة عن “بازل” في كل فترة أضيف إليه تفصيلا، أطل به على مشهد كبير من جانب مختلف، وما زالت هناك بقية. هذا المشهد هائل الحجم، يشارك فيه كثير من الروائيين، وكل منهم يضيف روايته.
كان الربيع العربي لحظة فارقة، ما حدث فيه اكتسى بعيارات عالية، كانت الآمال واعدة، والتضحيات مرتفعة، والتفوق الأخلاقي عالي السوية، والحقائق لا تخفى، والخيانات واردة، والأكاذيب كثيرة… سوف يكتب الكثير عنه، خلاله فقدنا أصدقاء وربحنا أصدقاء، وانحطت أنظمة إلى الجريمة والوحشية.
تكتب عن سوريا من لندن بعيدا عن حمأة الواقع وحساسيته، ألا ترى أنّ ذلك قد يؤثر على خصوصيات العمل الروائي؟
تروج الكثير من الأقاويل السيئة عن عمد، هناك من يكتب في الداخل ويزعم أنه على تماس مع الواقع، وكأن الذين في الخارج قطعوا صلتهم بالواقع والوطن معًا، في الوقت الذي كرسوا حياتهم كلها له، مع إحساس قوي بعذابات الداخل، يعيشون الحدث السوري لحظة بلحظة.
في هذا الزمن، لم يعد البعد بعدا حقيقيا، فالصلات موجودة لم تنقطع، لكل نصيبه من الألم، فالذين خرجوا ليس للتنزه والسياحة، لذلك يستحسن ألا تكون هذه الأساليب مجالا للمزايدات، لأنها مجال للكذب والادعاء لهؤلاء الذين يدخلون ويخرجون من سوريا متى شاءوا، ودائما بالترحاب، بينما يستثمرون مظالم الناس للشهرة. ارتباطنا بالوطن ليس مصادفة ولا دعائيًا، هناك من يستغل وجوده الآمن في الداخل، ويتاجر به، ويعرف أن ما يتمتع به يفوق أن يكون في الخارج.
في الحقيقة، كنت أخشى الابتعاد عن دمشق، لكنني اضطررت، كان اعتقادي أن غيابي لن يطول أكثر من بضعة أشهر، لكنه امتد سنوات، قضيتها لصيقا بما يحدث في بلدي، والكتابة عنه في جميع المجالات. أكتب دائما عن سوريا التي غادرتها ولم تغادرني.
-
المصدر :
- الجزيزة نت