تدور حبكة معظم روايات الأديب السوري فواز حداد، التي بلغ عددها حتى الآن أكثر من عشر روايات، بشكل أساسي حول المكان ومعانيه السياسية والمخابراتية والاجتماعية. يسهب بوصف واقع دمشق، يهتم بتاريخ المدينة المولود فيها عام 1947، خصوصًا في روايته “موزاييك دمشق 39″، التي يتحدث فيها عن أيام الانتداب الفرنسي في سوريا، وعلاقة أهل المدينة بين بعضهم من جهة، وبينهم وبين الأجانب من جهة أخرى.
وثّق الروائي في هذه الرواية الحياة الاجتماعية حينها، والعادات والتقاليد التي كانت سائدة تحديدًا عام 1939، دخل الروائي شوارع دمشق ناقلًا تفاصيل انطباعات الناس، وحتى الدوائر الحكومية ورئاسة الحكومة وعمل الوزارات، كي تصير “موزاييك 39” أشبه بوثيقة تاريخية تستند إلى أرشيف ضخم من الأحداث والسياقات.
العجز الطويل
لم تكن روايته الأولى “موزاييك دمشق 39” إنتاجًا أدبيًا معزولًا عن تجاربه اللاحقة من رواية “تياترو”، و”صورة الروائي”، و”الضغينة والهوى”، إذ شكّلت هذه التجارب عوالم مفتوحة لتاريخ سوريا المثقل بالاضطرابات، من خلال البحث في أزمنة متعددة بروائحها وأرواحها، “لم ينجح السوريون في أي من هذه الأزمنة في تأسيس دولة مدنية وديمقراطية يسود فيها القانون”، وفق ما قاله الروائي السوري فواز حداد في حديث إلى عنب بلدي.
ويُرجع حداد ذلك إلى عدة أسباب، فـ”البلد الذي خرج من الانتداب الفرنسي عام 1946، فاجأته الانقلابات ابتداء من عام 1949، وإذا بدت لنا فترة الخمسينيات مفعمة بالديمقراطية، فهي مخادعة، خلالها بدأ تدخّل العسكر وهيمنتهم على القرار السياسي، وكانت أيضًا فترة خلافات وتجاذب بين السياسيين، حتى الأحزاب في صراعاتها استقوت بالعسكر، وكانت حرب فلسطين مبررًا للاستيلاء على الحكم”.
آزرت تلك الحالة فكرة “حرق المراحل”، وفق تعبير حداد، أي ما ينجزه الانقلاب تعجز عنه الديمقراطية البرجوازية.
أما مرحلة الوحدة مع مصر (قصيرة الأجل) فـ”فرضها العسكر، وفرطها العسكر”، بحسب حداد، و”كانت تحت تأثير صراعاتهم، إنجازهم القومي توريط عبد الناصر بالوحدة. اليوم هناك مَن يتهم عبد الناصر بأنه هو الذي ابتدع المخابرات، ألم يكن هناك ما يدعى بـ(المكتب الثاني)؟ لعب العسكر في سوريا دورًا قصير النظر وغير وطني، ماذا كانت النتيجة؟ هذا النظام الرهيب الذي قتل الشعب”.
عايشت سوريا عدة انقلابات عسكرية، كان عام 1949 مملوءًا بإزاحة مفاجئة متكررة للحكومات بفعل العسكر، أولها انقلاب حسني الزعيم في آذار، تلاه انقلاب سامي الحناوي في آب، وبعدها انقلاب أديب الشيشكلي في كانون الأول.
في عام 1955، برز اسم العقيد عبد الحميد السراج في سوريا، حيث أوكلت إليه مهمة إدارة الاستخبارات العسكرية، أو ما كان يسمى حينها “المكتب الثاني”، الذي أشار إليه الروائي فواز حداد في حديثه، وكان ذلك المكتب يمثّل نواة جهاز المخابرات السورية.
مع قدوم السراج، صارت المخابرات من أكثر الأجهزة تأثيرًا في الحياة السياسية، حيث تغلغلت الأجهزة الأمنية في حياة السوريين، وبالنسبة للسراج، كانت هذه نقطة البداية لصناعة دولة بوليسية.
ومع مرور الوقت، صنعت الدولة البوليسية في سوريا لنفسها منظومة سياسية- اقتصادية بصبغة أمنية، لا تزال هي المرجعية التي تجعل بعض السوريين، جل وقتهم، يتعاملون مع ذواتهم على أنهم تبّع لهذه المنظومة، ويتعاملون مع جوهر وجودهم من خلال انعكاسه عبر مرآة النظام الحاكم، بما يشبه العجز عن التغيير المتوارث أجيالًا بعد أجيال.
فرصة ضائعة
من أبرز الإنتاجات الأدبية ضمن “الرواية المخابراتية” ذات البيئة السورية، عمل حداد تحت اسم “عزف منفرد على البيانو”، إذ يجد فيه القارئ عناصر الرواية البوليسية بأدب الخيال السياسي، مع التركيز على مواضيع مثل الاعتقال التعسفي، والاحتجاز، والتعذيب، والاغتيال السياسي، ومناخ الرعب الذي يغلّف شخصيات الرواية.
وضمن أحداث الرواية في الفصل الـ28 منها، هناك عازف فرنسي يعزف وحده داخل حفل، وبحسب تحليل الكاتبة الإيطالية فردريكا بيستونو للرواية، المترجم والمنشور في مجلة “الجديد“، مطلع آب الماضي، فإن هذه الحالة من العزف المنفرد تكون عند المثقف السوري، إذ يعلن وينشر نظرياته وحيدًا، دون جمهور يصفق له أو يحثه على الاستمرار.
هذه الصورة تعكس حال المثقف السوري كما يراها حداد، فـ”الخلافات بين المثقفين أشد وأعمق من خلافات الأحزاب السياسية”، وهذه الخلافات جعلت المثقفين يهملون الهم العام، بحسب حداد، وينشغلون بخلافاتهم.
“كان هناك (لينينيون) و(ستالينيون) و(تروتسكيون) و(ماويون) و(كاسترويون)، وهناك الذين لا يعتقدون إلا بجيفارا. حسنًا ما الذي حدث؟ كانوا مشرذمين لا تجمعهم إلا الخلافات، ما الذي أنتجوه؟ النظام كان يلملمهم بين فترة وأخرى، ثم إلى السجون، كانوا ضحايا حقيقيين، ناضلوا، لكن لم يجمعهم جامع يقودهم إلى توحيد النظر والرأي والنضال، ليلتف حولهم الناس ويعزلوا النظام”، وفق حداد.
يعتبر النظام السوري المسؤولين والمحللين السياسيين والموظفين في وسائله الإعلامية مثقفين، بحسب حداد، لأنهم يعملون على الترويج لسياساته، بينما المثقف الحقيقي على الطرف النقيض، يمثّل الناس لا السلطة، يحاول النظام حرمانه من الكلام، فيرميه في السجون.
السلطة في دمشق واضحة، ففهمها عسكري، ولا تملك سوى السلاح للاستيلاء على الحكم، بينما المثقفون كان سلاحهم الفكر، استعمله النظام مادة للتفريق بينهم، وفق ما أوضحه حداد، و”خلال الثورة هذا تكرر، زاد عليه أنهم أسلموا أمورهم للدول الإقليمية، بات من الممكن شراؤهم، وإغراؤهم بالمنافع. فليتواضع المثقفون، نرجسيتهم أودت بهم إلى الهلاك، بدل أن ينفرد كل منهم بالتغريد وحده والتبعثر في أرجاء العالم، ليتهم يعيدون النظر بقصة الوطن”.
ونتيجة لتلك الحالة، ما زال المثقف السوري يتحرك ضمن الدوائر الضيقة التي رسمها النظام له في الماضي، حتى وهو خارج البلد، وبحسب ما يراه حداد، فإذا لم يعقد المثقف صلة مع الناس كي يكون عامل تنوير لهم، فلا جدوى منه، “الكثير من المثقفين تعالوا على الناس، وكانوا ضدهم في إيمانهم، الإلحاد ليس أولوية، وليس لهم شأن به، إذا كانوا حتى الآن لم يفهموا أن الإيمان شيء شخصي، فكيف سيدعون إلى وطن هو شأن الجميع؟”.
في الواقع، جرت متغيرات أفرزت تأثيرات سلبية على الثورة، أبرزها التحول من الطور السلمي في الاحتجاجات إلى الطور المسلح، لكن بعض المثقفين انقلبوا على فكرة الثورة عمومًا، بحسب حداد، “كان من الممكن أن يُحدثوا تغييرًا إيجابيًا مع غيرهم، لكنهم تعللوا بالإرهاب، لو أنهم انحازوا إلى الثورة لما انقسم الشعب إلى قسمين متخاصمين”.
“قُدمت الثورة للمثقفين على طبق من المظاهرات والاحتجاجات عمت سوريا”، وفق تعبير حداد، لكن أغلبهم “أخلوا الساحة للنظام، فرصة ضاعت، بينما (القاعدة) و(داعش) انتزعتا مكانًا في الساحة، وكادتا أن تختطفا الثورة لمصلحتهما. لولا الأمريكيون والروس وأوروبا لما تمكن النظام من استعادة بعض من مواقعه”.
عودة العسكر
يعمل حداد المقيم في لندن حاليًا على مشروعه الجديد قيد الكتابة، وهو بمنزلة “سردية للحدث السوري لمواجهة سردية النظام” بشأن ما جرى خلال العقد الأخير من حياة سوريا.
يتضمن المشروع عدة روايات منفصلة عن بعضها، يربط بينها مناخ واحد، يحاول الروائي فيها تفكيك وتشريح آليات النظام الشمولي، كأنموذج لما يجري في سوريا، وما سيجري في الشرق الأوسط، ويتوقع فيه “عودة الانقلابات العسكرية، وتغوّل السلطات في تطهير المجتمعات من أي معارضة”.
هذه العودة واردة برأي حداد، بسبب “عدم وجود بديل إلا العسكر، مثلًا مصر، وما يجري في تونس، من يدعمه؟ إنهم العسكر. وكل هذه الانقلابات تجري بذريعة منع سيطرة الإسلاميين على السلطة. البلاد العربية لم تتحمل تجربة ديمقراطية واحدة، لهذا فشلت بواكير الديمقراطية في تونس، والتحولات في ليبيا واليمن وسوريا، ولا سيما مصر”.
وإذا كانت هناك ثورات مقبلة، يعتقد حداد أن “الدرس كان دمويًا ومميتًا، سيتعلم منه القادمون بشكل أفضل. على كل حال، المستقبل مفتوح على المجهول، أظن طبيعة الثورات ستتغير، لكن ستحدث متغيرات”.
مشاهد من الحاضر
بالعودة من ماضي دمشق في أعمال حداد إلى حاضرها، حيث العوالم الحقيقية لأحداث سياسية ومعيشية تتهاوى وتتساقط فوق رؤوس سكانها، يحاول الناس فهم تجربة خراب مدينتهم التي حضنت حياتهم، يصف الروائي واقع مدينته اليوم بأنها “تعيش في محنة، ما زالت بلا نهاية وإلى ازدياد وتفاقم”.
أرجع حداد هذا الوصف إلى أن دمشق رهينة احتلالات متعددة، مستباحة لإنشاء مستودعات الذخائر والصواريخ وخلايا المقاتلين، خصوصًا إيران التي تسيطر بدافع طائفي على بلدة السيدة زينب في أطراف المدينة، ومقام “السيدة رقية” وسط دمشق.
خلال 11 عامًا تحول البلد إلى مكان لإدارة عمليات ميليشيات مدعومة من إيران، لكن “هذا لا يؤثر دينيًا على طابع المدينة، لكنه يشكّل استفزازًا سيئًا لمشاعر الناس”، وفق حداد.
وهناك أيضًا “الفقر والجوع ونهب الناس بالغلاء، ما خلق طبقة من الفقراء، يرتع إلى جوارها بذخ بذيء، ناجم عن محاولات التعمية عليها بمشاريع ومطاعم لا يستطيع دخولها إلا أثرياء الأزمات وأمراء الحرب والشبيحة، ما يشعرك برفاهية مقززة، تدل على الفساد اللصيق بالنظام “، وفق ما قاله الروائي.
أشار حداد في حديثه عن مشاريع إنشاء المطاعم إلى مطعم “Nashkraysy” ذي الطابع المعماري الفخم، الذي يقدم الوجبات الروسية، إذ أُعلن عن افتتاحه في حزيران الماضي، وسط حديث عن أن ملكيته تعود لكل من المستشارة الإعلامية لرئيس النظام السوري، لونا الشبل، وزوجها عضو القيادة القطرية لحزب “البعث” عمار ساعاتي.
دمشق الحقيقية موجودة بالنسبة للروائي في “الناس الذين يعيشون فيها، ويقاومون رغم كل شيء، سواء بالصمت أو بتحمل ما لا يطاق”، وليست “دمشق الياسمين، ولا تلك الدعايات القائلة إن الناس يعيشون في بحبوحة رغم عدم وجود كهرباء ولا خبز ولا وقود”.
حين يفقد الإنسان كرامته في أرضه، بسبب الفقر والجوع، يفقد علاقته بها، يُدمر جوهر الحياة فيها ومنهجها، وتلاشي هذه العلاقة لا يقتصر على الهموم المعيشية فيها وإذلال الكرامات، وإنما خلق علاقة مهمشة غير ودودة بين الأرض والجيل الجديد من أهل المدينة، الذي تترسخ لديه فكرة الهجرة وما فيها من هواجس الانتماء الجديد، كحل نهائي لمواجهة ظروف البلد السيئة.