أعدت قراءة الرواية مرة أخرى.
ورغم أنني كنت قد مررت بكل صفحاتها سابقًا، شعرت وكأنني أقرأها للمرة الأولى. رواية “المترجم الخائن” لفواز حداد ليست مجرد نص أدبي، بل شهادة حية على حالة الانحطاط الأخلاقي والفكري التي يمكن أن تتسرب إلى أي مجتمع، خصوصًا عندما يُسحق الإنسان بين أيدي الأنظمة المستبدة ومصالح القوى الكبرى.

تدور الرواية حول بطلها، المترجم الذي يجد نفسه متورطًا في شبكة معقدة من التآمر والخيانة، ليس فقط تجاه الآخرين، بل تجاه ذاته وقيمه. يرمز المترجم هنا إلى حالة المثقف العربي المأزوم، الذي يتحول إلى أداة في يد السلطات أو القوى الأجنبية، دون أن يدرك في البداية مدى الانحدار الذي وصل إليه. حداد لا يقدم المترجم كشخصية “خائنة” فحسب، بل كضحية لظروف اجتماعية وسياسية خانقة، حيث لا يوجد مكان للنقاء أو للبطولة المطلقة.

الرواية كساحة مواجهة
اللغة التي كتب بها فواز حداد الرواية تشبه ساحة معركة. كل كلمة تحمل في طياتها ألمًا وكشفًا، وكل سطر يعكس صراعًا داخليًا مريرًا. حداد لا يمنح القارئ أي مساحة للهروب؛ فالرواية تقودك إلى مواجهة حتمية مع واقعنا، حيث تُسحق القيم الإنسانية في سبيل المصالح، وحيث تتحول الثقافة إلى بضاعة يُساوم عليها.

من خلال “المترجم”، يدخلنا حداد إلى قلب اللعبة الكبرى: لعبة الاستخبارات والسياسة والثقافة. إنه يفضح كيف يمكن للكلمات، التي يُفترض أن تكون وسيلة للتفاهم، أن تتحول إلى سلاح للخداع والخيانة. الرواية ليست فقط عن خيانة بطلها، بل عن خيانة أوسع: خيانة المثقف لنفسه، وخيانة الأنظمة لشعوبها، وخيانة العالم بأسره لمبادئ العدالة والإنسانية.

فواز حداد: روائي عالمي ظلمته السلطة
في النهاية، لا يمكننا الحديث عن “المترجم الخائن” دون التوقف عند فواز حداد نفسه. هذا الكاتب الذي أثبت أنه من أهم روائيي العصر، ليس فقط على مستوى العالم العربي، بل على مستوى الأدب العالمي. بأسلوبه الفريد وجرأته الأدبية، استطاع أن يقدم أعمالًا تحاكي أعمق الأزمات الإنسانية، وتعكس واقعًا عربيًا شديد التعقيد.

لكن بدلًا من أن يكون حداد في صدارة المشهد الثقافي، حورب من نظام الأسد، كما حُورب أمثاله من المبدعين الحقيقيين، بينما تم تصدير أنصاف المواهب الذين يكتبون بمداد التملق والولاء.

حداد لم يخن القلم، بل جعله سلاحًا في وجه الظلم. ولم ينحنِ لعواصف السلطة، بل ظل صوته مرتفعًا في زمن الصمت. رواياته ليست مجرد حكايات، بل شظايا من مرآة الواقع، تعكس لنا كل بشاعته وتحدياته.

في عالم يزداد اختناقًا بالخوف، يبقى فواز حداد شاهدًا نزيهًا على عصر مليء بالخيانة، لكنه أيضًا عصر مليء بالصمود الأدبي والإنساني.