لا تكسب مصداقيتها إلا من خلال الحقيقة
عندما تتصفح روايات الكاتب فواز حداد يأخذك إلى مسارب يحتاج السير فيها إلى أن تكون حواسك كلها في جاهزية تامة لأي مفاجأة قد تكون صادمة إذ تتسم أعماله الروائية بأنها تنهل من عمق المعاناة الإنسانية، ومن التاريخ، والواقع المعاش، يرصد من خلالها كمشروع روائي تسجيلاً حياً لما تعرض له الإنسان والمدن من تحولات لا تخلو من القهر والعذابات حيث قدّم عبر رواياته صورة عميقة عن المجتمع والتحولات التي عصفت به. واستطاع أن يلتقط تحولات المجتمع السوري بجرأة لا تخلو من شفافية، وأن يصوغها برؤية سردية تشبه المرايا الصادقة في مواجهة القارئ. من بين السطور، تتجلى أسئلته المقلقة عن الحرية، والهوية، والمصير، لتضعنا أمام أدب لا يكتفي بالحكاية، بل يحرض على التفكير؛ في أعماله، تتجاور الأسئلة الكبرى مع التفاصيل اليومية، ويختلط الهمّ السياسي بالبعد الإنساني، ليصوغ تجربة روائية عربية مميزة أثارت الكثير من النقاش.

في هذا الحوار، يفتح حداد نوافذ تجربته الأدبية، يتحدث بصراحة عن تجربته مع الكتابة، وعن موقع الأدب في زمن الأزمات، ورؤيته لدور الروائي اليوم، ورؤيته لمستقبل الأدب في العالم العربي.

*القارئ لأعمالك الروائية يكاد يشعر أنك تتوجه للقارئ النخبوي، القارئ المثقف، ذاك الذي يملك إلماما واسعا بالتاريخ والسياسة والأحزاب، إنه يحتاج ذلك كي يفكك المآلات، هل هذا خيار متعمد منك. ألا تخشى أن يبتعد القارئ العادي عن رواياتك لصعوبة مفاتيحها السياسية والتاريخية؟

نحن نخطئ عندما نعتقد بالقارئ النخبوي والمثقف فقط، بينما علينا التوجه للجميع، انا على ثقة من قدرة القارئ العادي، في الواقع هذا قارئي الحقيقي، انه في حساباتي. إن الالمام بالتاريخ والسياسة والأحزاب، على علاقة بالحياة، وأنا لا أغفل عن تقديمها بشكل واضح. لا بأس إذا عرف القارئ المناخ الذي تتحرك فيه الرواية، فهي لا تتحرك في فراغ، ولا في الحاضر دائما، حتى الحاضر يصعب استيعابه ان لم يكن القارئ على اتصال بما يجري حوله. هكذا الحياة تمضي، فهي لا تدور في غرف مغلقة فقط، هناك فضاء اجتماعي وتاريخي وسياسي، من الطبيعي أن يكون الكاتب والقارئ على احتكاك به، كما انها فرصة للتعرف إليه.

*ما يعزز مقولة “التوجه النخبوي”، أن غالبية أعمالك تعرضت للمنع وعدم التداول، ماذا كان يشكل لك هذا الهاجس، وهل حولته إلى حافز للكتابة أكثر؟

تعرضت كتبي للمنع، لأسباب يصعب حصرها، أنا لا أعرف تماما لماذا بالضبط، إذ لكل كتاب سبب أو أكثر. كانوا يتأذون منها، ربما لأنها لا تقفز عن الحقائق. نحن مجرد اننا نكتب عن كل شيء، فيصادر الكتاب، لا يروق لهم ان نتطرق إلى ما نعيشه، لئلا تصبح وثيقة ضد السلطة، هذا إذا تكلمنا في النطاق الضيق، ولم نشأ التوسع.

لم يؤثر المنع في كتاباتي، لدي مشروع، لو أمعنت النظر فيه، فبلا نهاية، ما دام عنا نحن الممتدة حياتهم من جيل إلى جيل، الحافز لم يخبُ أبدا، فلم اتوقف عن الكتابة، لدي أكثر من مبرر لئلا اتمهل، فالكتابة كانت الحياة التي اعيشها على الورق، ما يعوض عن الحياة الواقعية التي حرمنا منها.

* جزء من منع رواياتك يعود إلى أنك كتبت عن الحدث السوري في وقت مبكر، وكانت الثورة في بداياتها ولم تنقشع بعد غبار الحرب، الكتابة في خضم الحدث مغامرة بحد ذاتها هل تراها نافعة، وما الذي يدفع الكاتب لخوضها؟

ما يدفع الكاتب لخوض هذه المغامرة، وانا لا أعتبرها مغامرة، طالما أن الرغبة قوية في المشاركة بها. كتبت من واقع أنني مع الثورة واعاني من الطغيان، تماهيت مع الحدث، ولم يكن جديدا، لأنني عايشته قبل أن يبدأ بثلاثة عقود، فكان من الطبيعي أن أكون إلى جانبه بقلمي، انه عملي كروائي. لم يكن من الضروري انتظار نهاية الأحداث، انا اكتب عنا نحن السوريين في الثورة والحرب.

لم افعل جديدا، عندما كتبت في خضم الحدث، الكاتب ياروسلاف هوشيك كتب رائعته “الجندي الطيب شفيك” في ذروة الحرب العالمية الأولى. وكتب جورج اورويل كتابه “العودة الى كاتالونيا” عن الحرب الاهلية الاسبانية، ولم تكن قد انتهت بعد، وغيرهم كثير.

ليس هناك قاعدة ولا مواعيد لكتابة الرواية، في رأسك رواية، حسنا اكتبها، طالما هناك فكرة، ولديك موقف ووجهة نظر مما يجري، فلا عائق، هذا اذا كانت حول حدث ما، الميزة في هذه الحالة أنني اكتب رواية أتفاعل معها، رواية حارة، بعد سنوات تكون قد بردت. خاصة انني لا اكتب رواية عن اسرار وغوامض او تفاصيل ستعرف فيما بعد، انها عن هذا الحدث الذي يدور على الأرض، وليس في كواليس الدبلوماسية، وثائقها لن تظهر إلا بعد خمسين عاما. اكتب عن البشر في الثورة في الحرب في السجون، تحت التعذيب، أمام منصات الإعدام، عن الدولة الشمولية… عن الألم الإنساني.

* قلت سابقًا إن “الرقابة أخرتك في النشر…..”، اليوم يبدو الوضع مختلفا، هل تعتقد أن المشهد تغيّر، وهل ستكون أعمالك في متناول القارئ السوري في الداخل بحيث تنشر هناك؟

نعم المشهد تغير، اعتقد ان السلطة الجديدة ستسمح بتداول اعمالي، مع ان الناشر لم يجرب بعد، والسبب القدرة الشرائية المنخفضة في الداخل السوري، وهذا يحتاج إلى أسعار خاصة مراعاة للقارئ السوري. أنشر جميع كتبي في دار الريس بيروت، على مقربة من دمشق. كانت تدخل من قبل ليس بشكل رسمي وبكميات محدودة جدا.

* ولأنك كتبت عن الثورة في بواكيرها؛ الآن وبعد حوالي تسعة أشهر من التحرير، ماذا سيكتب فواز حداد؟ هل الأمر يحتاج للتفكر أكثر، وهل لديك خشية من شيء ما؟

انا لست مؤرخا، لن أسطو على عمل المؤرخين، ولا كاتبا وثائقيا. إذا كنت اغرف من تاريخ بلدي ومجتمعي المحلي، فلأن هذا بلدي ومجتمعي. أكتب عن البشر في التاريخ، في الحياة، عن العلاقات بين الناس، عن تأثير السياسة، عن العواطف الإنسانية، والخيال والحب، عن الجرائم٬ والانحطاط، والفساد… عن هذا الواقع.. هذه هي الرواية. كتابة رواية لا يحتاج الى قرار، الأفكار تفرض نفسها، وعندما تجد سبيلها للتعبير، أجد عندئذ طريقي إلى الرواية.

إذا كان لدى الكاتب خشية من الكتابة إلا عما يرضي السلطة، فمن الأفضل أن يتوقف.

*قلت: “اذا كان الأدب سيتحرك متنكّراً، فلن يطاوله القارئ، وسيبقى مقتصراً على شلل الأدباء، ما جدواه؟ سيلبث حبيس الشلل الأدبية، في دائرة مغلقة، يقرأه الأدباء وحدهم” هل هذا إدانة للرمزية، والإسقاطات، والخيال كأدوات للمواربة أمام الرقابة؟

انا لست ضد أي تيار للأدب، متى وجد نوع أدبي، يستمر في عالم الأدب، قد يتوارى، لكنه لا يموت. الأنواع الأدبية وجدت لتبقى، هل ذهبت الكلاسيكية أو التعبيرية والرومانسية وغيرها؟ لا، ما زالت تعمل. كنت أتكلم عن التجريب في الرواية، وهو أمر مطلوب، لكنه ليس عشوائيا، يجب أن يكون لديك اطلاع على الرواية، ولديك خبراتك، عندما تحس أن الرواية ضاقت عليك، عندئذ تصبح التجربة في المضمار الصحيح، وليس التخبط لمجرد الإيحاء بأنك تحدث فارقا في الكتابة. عادة تبتدع الشلل الأدبية تلك المآثر التي تبقى حبيسة الشلل نفسها، لا يقرأها غيرهم، مثل ما حل في الشعر، من فرط ما انطوى على جماعاتهم، لم يعد سوى الشعراء يقرأون للشعراء

*هل يجب أن يكون الكاتب شجاعا أكثر من غيره وسط ما يحيط بالمجتمع من خوف، أم عليه أن يتسلح بالحرية مهما كان الاستبداد مسيطراً؟ ماذا بوسع المثقف أن يفعل لوحده وسط هذا الهيجان والتوتر؟

نعم يجب أن يكون الكاتب شجاعا، وفي الوقت نفسه يجب الاعتراف أن مخاوفه لا تقل عن غيره. الكاتب انسان هش وحساس، قد يكون خوفه مضاعفا، ومع هذا يتحامل على نفسه، ولا يرضى إلا بالحقيقة، لا يساوم عليها، يرضى بالعزلة ولا يتنازل عن حريته. لا أعرف ما الذي بوسع المثقف أن يفعله وحده، لكنني مؤمن طالما لديه قلم، بوسعه فعل شيء ما، وهو كثير وليس بالهين، ولا يعدم الوسائل.

*خلال سنوات الحرب، كان الأدب السوري في خندقين: أحدهما مع النظام، والآخر مع الثورة. كل يتحدث من موقعه ولجمهوره، وهناك قارئ خارجي ليس سورياً أيضا. كيف ترى أثر هذا الانقسام على المتلقي وعلى الرواية السورية؟

هذا ما أحدث انقساما في التعبير، وليس هيناً، حتى الأدب يكذب ويدعي، لكنه يتماوت، ان لم يلفظ أنفاسه في اليوم التالي، جميع هؤلاء الذين اعتمدوا سردية النظام وادعوا أن الثورة كانت إرهابا، أدب يبرر الجرائم، أدب يكذب بصفاقة. اليوم يتنصلون مما كتبوه، أو يختلقون أسبابا واهية لما اضطروا إلى كتابته، رغم هذا لم يتخلوا خفية عنه، يحنون اليه، حرية التعبير في سورية حاليا غضت النظر عنهم، وهو امر جيد. ونحن نعرف أنه لو حدثت كبوة فسوف يقفزون إلى الخندق القديم.

عموما، مع سقوط النظام، انحسر الادب الذي قدم خدماته له، انتهى دوره، لارتباطه به، بينما الادب المتحرر منه، تابع مسيرته، انه يعمل بكامل طاقته، وقدم للرواية السورية دفعة نحو المستقبل.

*في أعمالك ثمة غوص في حقول شائكة، وقد وجّهت في كثير منها نقدا، بطريقة أو بأخرى، للمثقف السوري.. هل تريد أن تقول إن المثقف قصّر فعلًا في دوره تجاه مجتمعه؟، سواء خلال الثورة وقبلها، أم الآن؟

تقصير المثقف ظهر خلال الثورة، تحجج بعض المثقفين بعلمانية النظام، وكفوا النظر عن مفاسده وجرائمه، ودافعوا عنها. بعد سقوط النظام، وقدوم السلطة الجديدة، لم يتوقع مثقفو الخارج، سقوطه على يد النصرة الإسلامية، كانوا يعتقدون ببقاء الأسد تحت ضغوط البلاد العربية والغرب، فاعتبروا ما حدث مؤامرة، هؤلاء لم يكونوا على صلة بالواقع، لا يمكن اسقاط النظام الا بالقوة، مع انهم كانوا يعرفون، أن عائلة الأسد لا ترضى إلا بالأبد. لم يختاروا التصالح مع الإسلاميين وانما العداء معهم. مع ان الإسلاميين جاؤوا بروحية مختلفة تماما، ظهرت منذ كانوا في ادلب، يريدون بناء الدولة، فالبلد خراب، صحيح انهم يخطئون، لكن من لا يعمل لا يخطئ. آثر المثقفون الثرثرة لا العمل، ولم تكن الثرثرة إلا التحريض على الفوضى. نعم، النظام الجديد بحاجة إلى النقد، وهذا ما يجعله على تماس مع الناس، لكن ليس باصطناع شرخ بين السلطة والشعب في مرحلة التأسيس للدولة.

* مع كل التحولات التي شهدتها سوريا، ومازالت، فإنها باتت خزانا للروايات والقصص التي لا تنتهي. برأيك، هل ما كُتب عن الحدث السوري قبل وبعد التحرير يوازي ما حصل؟

طبعا لا، لا يمكن مهما كُتب أن يعادله. إن ما حدث على مدى ٥٤ عاما سيكون ملهما للكثيرين في الكتابة عن آلام وعذابات السوريين، عن الظلم والقسوة، عن الخيانة والوشاية، عن المقاومة، عن التضحية…. كانت ملحمة انسانية ضد الدكتاتورية، وانتصار الشعوب. وأيضا عن مجانين العظمة الأشرار الذين يعتقدون انهم يستطيعون التحكم بأقدار الناس بالحديد والنار.

*لقد قلت: “يجب على السوريين كتابة رواياتهم، كي نخترق الرواية العالمية.” متى سيحدث هذا وكيف يمكن أن يصل الأدب السوري للعالمية فعلاً؟

هذا لا يخص الرواية السورية، وانما الروايات العربية، كلما كانت الرواية أكثر محلية، أي تعبر موضوعاتها عنا نحن، عندئذ تستطيع احتلال موقع في الرواية العالمية، أي ان نكتب عن انفسنا ضمن شروط الزمان والمكان العربي، لا يهتم الغرب لهؤلاء الذين يقلدونه، يريد التعرف إلينا. الرواية المجال الأوسع ليتعارف البشر على بعضهم بعضا، وأيضا كي نتعرف على أنفسنا.

للأسف. لم يقيض للأدب السوري ان يترجم بما يليق به، الترجمة كانت من نصيب اعمال لا تستحق لهذا لم يحتل مكانا، ولم يُقرأ بالفعل.

*في رواياتك “المترجم الخائن”، “صورة الروائي”، و”الروائي المريب” و”السوريون الأعداء”، اقتحمت فيها أعماق المجتمع السوري وحفرت فيه بعيدا كمجتمع مسكون بالخوف، إلى أي حد ساهمت تلك التفاصيل التاريخية الموجعة في بناء الرواية؟ وكيف يمكن للروائي أن يوظف التاريخ، مهما كان مثقلًا بالآلام، ليخدم المجتمع بدلا من أن يبقى مجرد استعادة للماضي؟

عقود خمسة كانت أكثر من كافية لترسيخ الخوف في المجتمع السوري، استطاع النظام السيطرة على المجتمع من خلال أجهزة الأمن التي غطت سورية بالكامل، إلى جانب جيش عقيدته فاسدة وحكومات خانعة. من المستحيل لأي روائي منصف أن تخلو رواياته من سجون وتعذيب ومحقق وتحقيق ومراقبة وتنصت ورشاوي وعهر ودعارة ومخدرات… الروائي يكتب لا ليوظف هذه الانتهاكات فقط، ولا ليستعيدها على أنها جزء من الماضي، يكتب ليقول رغم هذا كله، انتفض السوريون وقدموا أكثر من مليون شهيد، كي يصنعوا مستقبلهم، ما كتبناه وما سنكتبه، هو اننا نعيد احياء هؤلاء البشر، كي نقدم مأثرتهم.

*المكان، تلك الثيمة التي تسكن كل أديب، ودمشق التي تسكنك، كيف انعكس حضورها في نصوصك؟ وكم كانت ملهمة لك بشوارعها وتاريخها ومقاهيها وأوابدها التاريخية؟

اعتبر نفسي واحدا من الروائيين الذين لديهم مدينة استأثرت بهم يكتبون عنها بإلحاح، انها دمشق، على الرغم من سياحاتي الروائية في القاهرة، بغداد، فلسطين، بيروت، باريس، لندن. ألهمني المكان الدمشقي، وعايشته روائيا في الواقع والخيال طوال ما يزيد عن قرن، واشبعت بخرائطه، وشوارعه ومقاهيه، ومكتباته… لقد كتبت عنه لأنني ابن هذا المكان، منحني الكثير؛ الألفة والمودة وذلك الرخاء الطيب، واشعر بأنني ولدت ثانية، بعد تحريره من الطغيان، وغياب ١٣ عاما عنه، حتى خلت انني سأمضي من الحياة من دونه.

*لنتوسع قليلًا ونناقش الرواية العربية: ما الذي يفسر هذا الفيض الهائل من الروايات العربية مؤخرًا؟ هل هو الاستسهال، الجوائز والشهرة، أم لأن الرواية تمنح فرصة أوسع للتعبير مقارنة بالقصة أو الشعر؟

يمكنك أن تجمع كل هذه الأسباب، وهو ما يفسر هذه الجائحة الروائية، لدي كل انسان على الأقل قصة ليرويها، فما بالك في أن حياتنا نحن العرب بفعل ما نواجهه وهو أكثر بما لا يقاس بالنسبة للشعوب الأخرى المستقرة، هناك أحداث مصيرية في كل بلد، ترى ما مدى تأثيرها في الفرد العربي، في حياته الشخصية، السياسة تدخل إلى البيوت، وتتحكم بالنسل، وبما يتناوله من طعام، وأين يقضي أوقات فراغه، والوقوع في الحب، وكيف يهرب من الزواج؟ عدا تلك العوالم الداخلية الطافحة بالألم والشقاء في محيط بائس قد لا يرتجى منه شيئا. هذا قدر ضئيل من عالمنا، ليس غير الرواية تستطيع التعبير عنه بعمق. بينما الجوائز والشهرة اعتقد انها على الهامش، وخدعة سخيفة، إذا كان الكاتب يكتب من أجلها، لكنها حافز أيضا، قد يصيب أدباء يستحقونه.

* في رأيك، هل الرواية العربية اليوم تجرؤ حقًا على مواجهة قضايا المجتمع والتحولات السياسية والاجتماعية، أم أنها تميل أحيانًا إلى التلطيف والمراوغة لتجنب الصدام؟ وما أثر ذلك على مصداقية الرواية أمام القارئ العربي والعالمي؟

من حسن الحظ، أن الرواية تحتوي هذا كله، بوسعها مواجهة القضايا الاجتماعية والتحولات السياسية بجرأة لا يحوز مثلها السياسيون ولا الباحثون، ويمكنها أن تخذل القارئ فتراوغ وتتفادى طرح هذه الأمور في الصميم، لا يشترط ان تكون جدية، يمكن ان تكون ممتعة ففي السخرية السوداء مجال لفضح العالم السفلي للسياسة والثقافة. لا تكسب الرواية مصداقيتها إلا من خلال الحقيقة، ولنتعلم ان نصف الحقيقة هو اكذوبة.

*هل ترى أن هذا الإنتاج الروائي الضخم يعكس توسعًا حقيقيًا في مساحة التعبير الفني، وتواكب التحولات التي تعصف بالعالم العربي؟ أم أنها ما زالت حبيسة تقاليد قديمة؟

تفسح الرواية المجال الأقوى لحرية التعبير، وعلى أوسع نطاق، كما تصلح للتواري خلف هذا الادعاء، تقدم الرواية فرصا مفتوحة يمكن للروائي استغلالها، كيفما يشاء، وبالطريقة التي تروق له، يمكن له العودة إلى التاريخ، أو مجاراة العصر، أو حتى الذهاب إلى بالمستقبل. المشكلة كيف يكتب هذه الرواية؟ هناك كم كبير من الإنتاج، وبعضها يتمتع بدعاية عريضة، تخفي ضعفها.

طبعا هناك تحولات لكنها لن تستطيع اثبات مكانتها الا بما تحققه من إضافة على مستوى التحرر من الاشكال القديمة مع استشعار روح العصر في الأساليب والتقنيات.

*هل واكبت الرواية العربية ما يحدث في العالم العربي من تحولات على كل الأصعدة وكتبت عنه بجرأة؟

عموما، رافقت الرواية العربية التحولات في عالمنا العربي، لا سيما الأجيال الروائية التي سبقت على رأسها نجيب محفوظ في ثلاثيته العظيمة، وغيره مثل صنع الله إبراهيم، غسان كنفاني، غالب هلسا، هاني الراهب، هؤلاء وغيرهم، ما يدلنا أن الرواية لا تنفصل عما يحدث في الواقع من دون الوقوع في المباشرة، تعالج موضوعاتها السياسية بطريقتها، ولم تنقصها الجرأة.

*بعد مسيرة طويلة من الكتابة، ما الذي ما زال يحفزك للعودة إلى الرواية في كل مرة؟

مهما تعددت دروبي في الادب، دائما ما تقودني إلى الرواية، هناك الكثير مما يجب أن نكتب عنه، وإذا كان هناك ما يحفزني للكتابة بشكل مستمر فهو البشر والمتناقضات غير المفهومة في الحياة، وأيضا الظلم، والافتقاد إلى العدالة، الطغيان… لا تكفيها عدة اعمار ولا عدة أجيال، انها مسيرة طويلة.

*هل نالت أعمالك حقها من الاهتمام الإعلامي والنقدي؟ وهل الأدب الجريء والمواجه في العالم العربي ما زال يُهمش رغم قيمته وتأثيره؟

حركة النقد ضعيفة في العالم العربي، النقاد الكبار رحلوا، والنقد الجيد عملة غير متداولة، ما يكتب هو مراجعات متواضعة وانطباعية، الصحافة الثقافية صحافة استهلاكية لتسويق الكتب، من دون النظر الي أهميتها، ولمجرد الدعاية، واشبه بالإعلانات. طبعا لا اعمم. ويمكن القول بكل وضوح ان الوسط الثقافي يعمل ضمن آلية متوافق عليها، الخوف من الكتابة عن الادب الجاد لا الجريء فقط. هناك شلل ثقافية مسيطرة على الحركة الثقافية. ما يحد من تأثيره، لكن لدى الأدب الجيد مساربه ويستطيع الصمود.

* لو أردت أن تختصر علاقتك بالكتابة في جملة واحدة… ماذا تقول؟

كل رواية فرصة لمغامرة شاقة ومرهقة ومؤلمة وممتعة جدا، ووسيلة لاكتشاف العالم والبشر والحياة.