ليس من المستبعَد أن يخطر لكاتب تأثّر بالإبادة الجارية في غزّة، وهو أمر طبيعي، الكتابة عنها متوسّلاً الأدب، عادةً الشكلُ التلقائي: قصيدةُ شعر، وربّما قصّة قصيرة، لكن ماذا لو كان رواية؟ عندئذ سيعترض كاتب أو ناقد، من جانب أنّه لا يجوز التسرّع، فنحن ما نزال في قلب حدث لم ينته بعد، حتى لو انتهى لا بدّ من مرور الزمن، ريثما نُلمّ به، وحتى تظهر المزيد من الحقائق. إنّ ما يُكتب في هذه الأيام، يجب ألّا يزيد عن يوميات وقائع الحرب، ورصد توثيقي، ومتابعات ومقالات لا أكثر.

ماذا لو وجد الروائي عناصر الرواية متوافرة، طالما أنّ اهتمامه منصبٌّ على الكارثة الإنسانية، من ضحايا وتضحيات وحصار، وعمليات مقاومة، وقدرة بشر على التحمّل. بالنسبة إلى المكان الروائي، هناك جغرافيا بلا حدود، إذا كانت غزّة بؤرة الحدث، فقد تمتدّ إلى الضفّة الغربية ومناطق فلسطين المحتلة عام 1948، والعواصم العربية، والمدن الأوروبية والأميركية، فالاحتجاجات اندلعت وتوسّعت، ولم تتوقّف، سارع إلى القيام بها شبّان ناشطون وطلبة جامعات وأساتذة، وممثّلون وروّاد وسائل تواصل اجتماعي، ومنظّمات إنسانية، وشبّان فلسطينيّون متوزّعون في العالَم، وعائلاتهم في الضفّة والقطاع. سردية واسعة النطاق ومتعدّدة الأبعاد، تحرّض على عشرات الروايات، وقد يراها آخرون رواية واحدة تُكرّر نفسها.

إنّه شأنٌ إنساني، مثلما هو أخلاقي وسياسي في آن واحد

ثمّة تساؤلات مصيرية لا يمكن طرحها بكثافة وعمق سوى في الرواية، ففي تجاوُر الحياة والموت وانتفاء الفاصل بينهما، تهديدٌ للبشر، وفي التطرّق إليها عندما تصبح صناعة دولية بغيضة، يصبح فضحُها وتعريتها يتجاوز الاعتراض عليها إلى العمل ضدّها بمختلف الوسائل. من هنا قد يشعر الروائي بأنّ الرواية وسيلةٌ للتعبير عمّا يلمّ بالعالَم من متغيّرات نحو التعسّف في معالجة الأزمات، كذلك التمييز بين البشر، وعودة المنطق الاستعماري، والتحصُّن ببياض البشرة.

لا بدّ من التذكير أنّه لا القصيدة أو القصّة ولا المقالات يتوفّر لها هذا الفضاء المُترامي، ولا القدرة على محاولة احتواء هذا المزيج الكثيف من تأجُّج المشاعر والنزعات والقلق. طبعاً، لا ينشد الأدب تحرير فلسطين، وليس بوسعه، كما لا يُمكنه تغيير هذا الواقع، وإنما طرح الأسئلة وربّما محاولة الإجابة عنها، ولئلّا ننسى، أحياناً يحمل السؤال نفسه الجواب عنه، عندما لا يكون هناك جواب غيره.

ماذا يعني الموت، ولماذا التضحية، هل الوطن مجرّد مكان يحلّ محلّه مكان آخر؟ تتفتّق عنها عشرات الأسئلة، تمتدّ إلى الماضي، وتذهب إلى المستقبل، ويربط الحاضر بينهما. لا يمكن القول إنّ المأساة الفلسطينية استُنفدت أدبياً؛ شعراً ونثراً وروايات ومسلسلات تلفزيونية، وأفلاماً درامية… طالما أنّها لم تنته، ودائماً في طور التجدّد، تتكالب عليها ظروف القهر والنكران الدولي والعجز الأممي.
لا أعرف كيف ستُكتب هذه الرواية، ذلك يعود إلى الروائي، ومدى تأثّره بوقائع تمسّ كيانه الإنساني، إن لم يكن بوجوده، وامتحان لأخلاقياته. لا تعود بعدها خياراته في الكتابة، إلّا في كيفية إدارة رواية ذات مساحة واسعة، تفيض بالأحداث، وفي اختياراته للأشخاص، ربّما في التقاط مفصل أو تفصيل يشرف منه على عالَم لا ينحصر بغزّة فقط، وإنما يطلّ منه على العالَم، رواية شأنُها الإنسان، وما نكبة غزّة فيها، إلّا شأناً إنسانياً، أمّا السياسة، فإنكار العدالة، ونزيف الدماء والمجازر واقتلاع الشعب الفلسطيني وتهجيره، هل من الممكن فصْل السياسي عن الإنساني، والسياسي عن الأخلاقي؟ إنّه شأن إنساني، مثلما هو أخلاقي وسياسي في آن واحد.

هذا ليس اقتراحاً لكتابة رواية، فالرواية لا تُكتَب حسب المناسبات، هي ليست مسابقة وجوائز، ولا تكليفاً من سلطة تُبرّئ ذمّتها من فلسطين. إنّها الرغبة في كتابة رواية عن الحقيقة.

أمّا لماذا هذه الرواية؟ فقد يذهب بنا هذا السؤال إلى سؤال آخر: لماذا نكتب؟