في الوقت الذي أصبحت فيه الانقلابات شيئاً من الماضي، ولم تعد حدثاً حاضراً، أو يعوّل عليها في التغيير، بقاياها تلفظ أنفاسها في القارّة السوداء، بعدما حقّقت أفريقيا نقلة نوعية، احتلت فيها الحروب الأهلية والنزاعات العرقية قصب السبق. باتت الانقلابات حدثاً يُتندر به، بعد انطواء العسكر في الثكنات، وتسلّح الميليشيات بجميع أنواع الأسلحة ما عدا الثقيلة منها.
خلالها، كان المثال السوري حاضراً كمثال لا يحتذى، من فرط عدم جدواه، فخلال سنوات قليلة بعد الاستقلال عام 1946 ضربت سورية رقماً قياسياً في الانقلابات الناجحة والمخفقة، حتى أن الضباط لم يجدوا خلاصاً من غوايتها إلا في طلب الوحدة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر. لم يطل الوقت، بعد نحو عامين ونصف، كان انقلاب الانفصال أيلول/سبتمبر 1961، أعقبه بعد مرور نحو عام ونصف انقلاب دعي في حينها بثورة الثامن من آذار/مارس. لم تتوقف الانقلابات أو محاولاتها، حتى قام حافظ الأسد بانقلابه الأخير في تشرين الثاني/نوفمبر 1970، لم يطلق عليه انقلاب ولم يصفه بثورة. كان العنوان بريئاً ومتواضعاً “الحركة التصحيحية”. وهكذا قطع بطل التصحيح دابر الانقلابات بالجيش العقائدي.
اليوم عادت الانقلابات إلى المنطقة تحت ذرائع متنوّعة مثل منع الفتنة وإحلال الأمن والاستقرار والسلم الأهلي، عموماً لا تعوز العسكر الأسباب، فالانقلابات لم تعد تدبّر ليلاً، بل في وضح النهار، ولها جماهيرها من شتّى الاتجاهات، حتى اليسارية منها أعداء العسكر.
بات الانقلاب يأتي جهراً، مع عشرات تصريحات النفي، ليعود الشعب إلى العهد الذي كاد أن ينساه، مكللاً بشعارات الديمقراطية، تعويذة العصر المنجية من الفوضى، ولو كانت مموّهة بالخاكي. الأسطوانة الأخيرة، كلّما تحرّكت الدبابات في بلد عربي، تسارع الدبابات في البلدان العربية الأخرى بالتدريج إلى اللحاق بها، فلا نستغرب ما حدث في مصر وليبيا، طالما أن الربيع العربي كان المرجعية في العدوى. من قبل كان شباب الثورة، اليوم العسكر قادمون، جاء دورهم.
اللافت في الفترة الأخيرة، أن الانقلابات التي تجدّدت ليست أسيرة المنطقة، سبقها قبل سنوات انقلاب في الباكستان وبلدان أخرى، وقبل أيام لحق بها انقلاب في تايلاند أعلن عنه قائد الجيش بهدف استعادة النظام من الفوضى السياسية وتنفيذ إصلاحات ضرورية. كالمعتاد يدين الأمريكيون أي انقلاب ويطالبون بعودة العسكر الفورية إلى مواقعهم، والحكومة المدنية لممارسة أعمالها، مع التشديد على الديمقراطية، ريثما يجدون صيغة يتعاونون فيها مع العهد الجديد.
ما يستفاد من عودة الانقلابات، برأي البعض أنها أهون الشرّين، ليس غيرها يضع حداً بالقوة للحروب الأهلية والفتن الطائفية، والخطر الإسلامي. فالعالم بات يغلي بالاضطرابات وتقلب الفصول، فلا الصيف صيف ولا الشتاء شتاء، مثلما الربيع لم يكن ربيعاً، بعد أن عوّلت عليه الشعوب العربية بسيران ديمقراطي، لاسيما الربيع السوري الذي جاء بعد قحط دام أكثر من أربعين عاماً، فإذا به كان دامياً، مروّعاً، ونكبة كارثية على سورية وشعبها، شكل الحدث الأكثر مأساوية في تاريخها، بما تجاوزأفعال الطغاة سفاكو دماء أمثال هولاكو وتيمورلنك.
لم يتخطّ العالم عقدة الانقلابات، على الرغم من أن الغرب، حاول تسمية الأشياء بغير أسمائها، للتخلص من السمعة السيئة للانقلابات. ما الذي يحدث اليوم في أوكرانيا؟ وما الذي حدث فيما دعوه سابقاً بالثورات المخملية والملونة… على أمل أن تبدو خديعة قلب أنظمة الحكم لا تزيد عن مظاهرة أشبه بنزهة، ما ينزع عن الانقلابات طابعها الفج. اليوم وهي تمتد إلى حدودهم، لايمكن التخفي عليها، لم تعد ملونة بالألوان الفاقعة، بل دامية، ولا معطّرة، رائحة البارود تزكم الأنوف.
ما بدا من الماضي، عاد من الماضي، إذ لم يكن الذهاب إلى المستقبل، نظيفاً من أثقاله. الزعماء التاريخيون أخلوا الأجواء لورثة يطمعون بالمزيد من صناعة التاريخ المشين. أما الغرب عديم النظر، رغم جعجعاته بالديمقراطية، يفضل الأسلوب القديم، الانقلابات الوسيلة الأسرع للتغيير وللتفاهم. لن يدرك الغرب عظم مسؤولياته، وأنه أحد عوامل الانقلابات، بالسكوت عن الديكتاتوريات، إلا عندما تضرب الانقلابات القارة السعيدة، إنها تقرع أبوابه.
-
المصدر :
- المدن