مناسبة عودة رفعت الأسد لا تعني شيئًا للسوريين في الداخل أو الخارج، فهي لا تخصهم، سواء عاد من دون صفقة، أو بصفقة كان عرابها الروس بتواطؤ فرنسي، مراعاة لإيران، أو استمرارا للعلاقات الخاصة التي تربط أجهزة المخابرات الفرنسية السورية. القصة عائلية بحتة، من أجل سمعة العائلة في الداخل أكثر من الخارج الذي لا يهتم بالعائلة إلا بمقدار ما تدره عليه من غسيل أموالهم، إنها موجهة إلى الموالين لطمأنتهم على المستقبل.

الصورة التي يحملها أنصار القائد المغوار، هي الكريم المتلاف، القادر على اصطناع الخوارق، وإن تفوق عليه أخوه حافظ وأتى بالمعجزات، أحدها أنه طرده من البلد، واشترى خروجه منها بـ 200 مليون دولار. لكن العائد إلى البلد، لم يتوقع أن يتمكن الوريث الشاب من التفوق عليه بالقتل والتدمير، بعدما كانت مجزرتا حماة وتدمر الشاهد على وحشية العم، أصبحتا نموذجا مصغرا عما لحق بسوريا من خراب وتهجير، كانت أبرز دليل ما زال شاهدا على همجية ابن الأخ.

تشكل عودته بالنسبة إلى العائلة مناسبة لافتة، مهما كانت ذنوبه وأخطاؤه وجرائمه وما أحدثه من الفرقة بين الرعيل الصلب من العسكريين الذين احتلوا سوريا وأقاموا دولة البعث، التي تحللت وأقامت دولة الأسد، ومن ثم دولة العائلة، وأخذت بتشكيل نوع فريد من التسامح يشمل أفرادها دونما استثناء، فالقائد كان على خصام معها، مع هذا أنقذوه من المحاكم الغربية، والتنكيل به في الخارج، مهما يكن فهو من عائلة الأسد، التي أصبحت ماركة مسجلة في العالم، والأولى ألا يسجن واحد من كبارها، أسهم بصناعة قوانين الوراثة، وكان الأحق بها. هذا من تقاليد المافيا، والمافيا الرئاسية، لديها اعتبارات لا يجوز العبث بها. ما يوحي بمؤشرات ضمان للأعوان المخلصين، بأنه مهما فعلوا، أي أجرموا، فلديها القدرة على انتزاعهم من محاكم وسجون بلدان الديمقراطيات. وما عودة القائد إلى البلد من دون أن يناله ضيم مع أنه صدر حكم قضائي بسجنه، ومصادرة أمواله وممتلكاته في أكثر من بلد أوروبي، إلا الدليل على اليد الطويلة للعائلة، مع أن الديمقراطيين تمكنوا من استهدافه بقضايا مالية، لم يتركوا كبيرة ولا صغيرة، حتى إنهم اتهموه بتشغيل خادمات بشكل غير قانوني، فهو لم يراع القانون في أوروبا، لا في مئات الملايين، ولا في عشرات اليوروهات، تصرف وكأنه ما زال في أحضان العائلة، لكنه لم يشتط ويطلق النار على خمسمئة معتقل أعزل، ولا قصف مدينة بالدبابات، ربما لأنه لم تكن لديه دبابات في غربته التي امتدت أربعين عاما.

لم يحظ القائد بالراحة، ففي الغرب كانت لديه تجاراته وقنواته مع مافيات الغرب، وكان يفكر بتدبير انقلاب، لعدم ثقته بقدرة الوريث على قيادة البلد، لكن أعوانه المخلصين في الداخل خذلوه، كما أن الوريث كان له بالمرصاد.

المؤسف، أنه لم يستقبل الاستقبال اللائق، فبدا كقائد بلا أعوان، رفاقه الأوفياء طعنوا في السن، ومنهم من مات. أما الذين ورثوا محبته عن آبائهم فقد أصبحوا بعد عشر سنوات حرب في مربع آخر

المؤسف، أنه لم يستقبل الاستقبال اللائق، فبدا كقائد بلا أعوان، رفاقه الأوفياء طعنوا في السن، ومنهم من مات. أما الذين ورثوا محبته عن آبائهم فقد أصبحوا بعد عشر سنوات حرب في مربع آخر. لو كانت عودته قبل عشرين عاما لأغرق سوريا بلده الحبيب في حمام دم.

أما الآن، فالمُطمْئن، رغم ما أصابه من وهن وهوان، أن البلد أصبح ملكية خالصة للعائلة، سيتوارثونها أبا عن جد، ليس بالقوة ولا بالدبابات، بل باعتراف الدول الكبرى ودول الجوار والمنطقة، مع حماية دولتين واحدة عظمى والأخرى إقليمية، ورضا الديمقراطيات في العالم. كما أن الأميركيين من طرفهم، غضوا النظر عن قانون “قيصر”، وأداروا وجوههم عن المطبعين مع العائلة. بصريح العبارة قالوا للدول العربية: طبعوا أو لا تطبعوا هذا شأنكم. والمتوقع أن تهرول دول المنطقة إلى دمشق، والاعتراف بجميل الأسد عليهم، فقد منع بمجازره، وبراميله المتفجرة والكيماوي، الثورات من قرع أبوابهم، كان في الخط الأول، ما ارتد عليهم بالأمان والاستقرار.

لأول مرة في تاريخ سوريا القديم والمعاصر، تحققت على الأرض فكرة المجتمع المنسجم، بتنزيل عدد سكانها، أو بالأحرى تنظيفها من قرابة سبعة ملايين مارق. ما يؤكد بزوغ الدولة الجديدة، ليست سوريا الحديثة ولا سوريا القديمة التي هدمها الأب والابن بالتناوب بينهما، بل سوريا ما بعد الحداثة.

نقترب من الحقيقة بالقول، إن العالم لا يعبأ بالسوريين، فمقتل نحو مليون سوري، وتهجير ونزوح الملايين، لم تحرك ضمير العالم نحو اتخاذ إجراء جدي ضد النظام، وما المساعدات والمواد الإغاثية والتصريحات الداعية لتغيير سلوكه، إن كان هناك مشاعر إلى جانبنا، لا تزيد عن مداواة للشعور بالذنب، لكن الجرائم ضد الإنسانية لا تداوى على هذا النحو. إنها وصمة عار، أن يحظى الإجرام بهذه الرعاية الفائقة.

لا نبالغ في القول إن العالم متضامن ضدنا، هذا ليدرك السوريون أن عودة الابن العاق ترافقت مع عودة العائلة إلى الساحة الدولية، فالتضامن عائلي ودولي، بالمقابل لا خلاص إلا بتضامن السوريين، ونبذ خلافاتهم ومهاتراتهم، ما حدث عظيم الأهمية من ناحية إدراك أننا وحدنا، كما كنا وحدنا، إن لم ننقذ سوريا فقد ضاعت بلادنا نصف قرن آخر، وربما أكثر، أهذا ما نورثه لأولادنا وأحفادنا، عهد طغيان آخر؟