ساد التفاؤل في العقد الأخير من القرن الماضي، فانهيار جدار برلين، بشّر بانهيار الدولة الشمولية الأكبر في العالم، لم تتأخر البشارة عن التحقق، سقط “الاتحاد السوفيتي”، والتحقت به دول أوروبا الشرقية.

العالم استسلم للإمبريالية المنتصرة. بدا كأن مسلسل المتغيّرات قد أنهى أعماله على عجل. أما ما تبقى من دول أفريقيا وآسيا فلا سبيل أمامها سوى اللحاق بديمقراطيات من سبقها ولو بعد قرن. بينما بلدان “الشرق الأوسط”، المناضلة بلا نضال، فتحصيل حاصل، لم تكن أكثر من ملحقات بالنظام الشمولي، تتعيّش على اشتراكيته وطغيانه ونظام مخابراته. وفي حروبها، على أسلحته وخبرائه. والأسلم أن تفكر؛ إن لم يكن بالرحيل، فبتعديل سياساتها والاعتراف بحق مواطنيها في الحياة. لم يعد هناك حتى ما يشبه الستار الحديدي على العقول ولا على النظر؛ تداعيات الانهيارات تتسارع في العالم؛ مرئية ومسموعة مع انتشار الصحون اللاقطة للقنوات الفضائية المتكاثرة كالفطر.

كان من نتائج التفاؤل، نهاية التاريخ، فقد انتهى الصراع بين المنظومتين المتناحرتين، وانطلقت العولمة الظافرة تمخر عباب الكرة الأرضية، لن تقف في وجهها حدود دولة، ولا أصالة أمة، أو ثقافة شعب، وسوف تتوارى التقاليد والأديان والمذاهب لصالح غرب متأمرك، لا حروب جديدة، واذا كان هناك من تاريخ سيكتب، فتاريخ ما مضى، خاتمته الانتصار العظيم.

“كانت الخشية أن تشكل المظاهرات الشعبية العربية إلهاماً للشبيبة الأوروبية”

كان الاعتقاد أن الألفية الثالثة ستبدأ عهداً لم تحلم به البشرية من قبل، وسائل الاتصال ستحطّم القيود والرقابات نحو توحيد البشر وتفاهمهم تحت سلطان العقل الواحد. فلتسعدي أيتها الانسانية المعذبة، لما سيكون عليه كوكبنا تحت سيادة “عقل العالم”، لقد انتهت عهود القلق.

مع افتتاح الألفية الثالثة، انهار بُرجا مركز التجارة العالمي في نيويورك، وتصدّعت معهما الآمال. أصبحت النقلة النوعية هي عولمة الإرهاب، بالتالي لن يقف عائق في وجه إرهاب يتوالد في خلايا، ربما كانت الخلية عبارة عن شخص واحد. لكن “عقل العالم” سيختار ساحات المعارك ويشعلها؛ أفغانستان، العراق. ولن تقف عند حدودهما، فالهدف تغيير العالم.

في “الشرق الأوسط”، ستتحصّن أنظمة المقاومة والممانعة من جائحة العولمة والحرب والإرهاب والغرب… بالتوريث، الأسر الحاكمة ستحافظ على الاستقرار والأمان. بينما سيباشر العالم حرباً مصيرها الغموض، الإسلام وقودها. لن تحظى هذه الأجيال برؤية نهاية لها.

على غير توقع، هبّت رياح “الربيع العربي”. وباتت السيناريوهات كلها عرضة للتخلخل، فالتوريث بات مهدّداً بالديمقراطية. وحروب الإرهاب لن تكون حجّة للتدخل في مصائر المنطقة. وبات كأن أوروبا ستذهب إلى الفوضى في حال انتقلت عدوى الربيع إلى بلدانها، كانت الخشية أن تشكل المظاهرات الشعبية العربية إلهاماً للشبيبة الأوروبية، وتحثّها على الانتفاض ضدّ عجز السياسة. وسوف تتقن الحكومات الغربية إطلاق التصريحات المؤيدة للربيع، وتسعى جاهدة لإبقاء الاستبداد، في سبيل أوروبا مستقرة.

“عقل العالم” يتخبّط، لم يتحمّل “الربيع العربي”.