بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فكّر الأميركيون جدّياً في أسلوب عَملي لتحصين العالم من الشيوعية، ينحو إلى تنبيه العالم المأخوذ بالأفكار الماركسية إلى خطرها. كانت كثرة من بلدان العالم الثالث تعتقد أنها تشكّل برنامجاً نضاليا ثورياً صالحاً للخلاص من النير الرأسمالي وتحقيق العدالة والمساواة، وتحرير المستعمرات من الاستغلال، ما يساعد الشعوب على استعادة مصائرها السياسية، واختيار طريقها إلى المستقبل.

كان ذلك في بدايات الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى معسكرين، وكانت جبهات القتال قد بردت تماماً، والأمل بأن الحروب أمست من الماضي المشؤوم للبشرية. غير أن هذا التفاؤل لم يعنِ إلّا تسخين حرب الجواسيس، فنشطت بين الطرفين، لكنّها لم تكن كافية، فالمعركة معركة أفكار أيضاً، ما يحتاج إلى حرب ثقافية، أبطالها مثقّفون وضحاياها مثقّفون.

لم يقتنع الأميركان بعزل الثقافة عن الحرب الباردة لخصوصيّتها الفكرية، بل اعتبروا أنها حركة انتقالية صحيحة من مكافحة الطابور الخامس النازي إلى مكافحة الجواسيس السوفييت ومعهم مفكّرون وأدباء، ربما كانوا شيوعيين.

كانت غالبية المثقّفين تُعارض الصراعات السياسية، وتعتصم بموقف محايد، من دون انحياز عقائدي، باعتبار الثقافة ساحة مغايرة، معاركها مختلفة، تُخاض على المنابر بلا أسلحة سوى الفكر. لكنّ القرار الأميركي اتُّخذ، وأصبحت الثقافة أحد الأسلحة الساخنة في الحرب الباردة، وأُوكلت أمورها إلى وكالة المخابرات المركزية الأميركية. لم تبدأ الوكالة من الصفر؛ كانت هناك ذخيرة من المثقّفين المرموقين الذين اتّخذوا موقفاً مضادّاً للشيوعية بعد انكشاف جرائم الستالينية، من بينهم أندريه جيد وآرثر كوستلر وجورج أورويل وبعض اليساريين المعروفين الذين انشقّوا عن الشيوعية وتابوا عنها. ولم تعد الخطّة أكثر من تجنيد مثقّفين وأدباء وفنانين ومراكز أبحاث وجامعات وطلبة وصحافة وإذاعة. اعتبرتهم الوكالة جواسيسها النشطاء، ضدّ جواسيس متعاونين مع الروس، وبلغت الذروة في محاكمات طاولت شخصيات بارزة مثل برتولت بريشت وشارلي شابلن ومارلون براندو وغيرهم، تعاملت معهم بهذا المعيار؛ جواسيس شيوعيون تحت غطاء الأدب والفن.

من صنيع الأميركيين أن زجّوا الثقافة في دهاليز المخابرات

ساهمت شعارات الحرّية في استقطاب نخبة من المفكّرين الكبار كتبوا في المجلّات العائدة للوكالة، أمثال الفيلسوف برتراند راسل والمؤرخ أرنولد توينبي وعالم الاجتماع هربرت سبنسر، جُيّرت أسماؤهم ضد الشيوعية، مع أنهم في الواقع كانوا يعبّرون عن أفكارهم، لكن في مؤسسات ثقافية مشبوهة، لم يكونوا على علم بارتباطها بالمخابرات.

في الوقت الذي كانت الوكالة تقود عملياتها التي يمكن تلخيصها بإدارة انقلابات وإسقاط حكومات وتدبير اغتيالات. كانت في الوقت نفسه تقود، في ميدان الثقافة، عملية شديدة الذكاء، وُصفت بأنها مستنيرة سياسياً، حتى أن مثقفين كباراً اعتبروا المخابرات مرفأ الليبرالية في العالم، مع أن هذا المرفأ كانت تنطلق منه البوارج الضخمة لمساندة دكتاتوريات عسكرية قفزت إلى سدّة الحكم بالدبابات.

لم يكن البريطانيون أقلّ حماسة ولا تشدداً من الأميركان، فقد كُشف منذ سنوات عن احتواء أقبية المخابرات البريطانية، على عدد ضخم من الملفّات الاستخباراتية لعدّة مئات من الأسماء المعروفة في عالم السياسة والثقافة والأدب والمسرح والموسيقى وصناعة الأفلام والعمل النقابي والصحافة والعلوم، وكذلك لأعضاء محترمين في البرلمان. كانت القائمة تشمل كلّ مَن اقترب من اليسار، أو أظهر ميولاً يسارية، والناشطين ذوي البشرة السوداء، وكذلك مثقّفين وفنانين لم يلتحقوا بأيّة تيارات سياسية لكنْ مارسوا حرّياتهم بالتعبير، وطرحوا علناً آراء اعتبر موظّفو الاستخبارات المتحيّزون سياسياً وطبقياً، أنها تشكل خطراً على الأمن القومي بتعريفه الضيّق المتّسم بالشوفينية والعنصرية، فأخضعوهم للرقابة تحت عناوين عامّة مثل الدفاع عن البلاد، ومكافحة التخريب.

في هذا الوقت، لم تكن مطروحة لدى الأغلبية الساحقة من أعضاء “الحزب الشيوعي”، سواء في أميركا أو بريطانيا، فكرة السلطة، أو فقدوا الثقة بالاتحاد السوفييتي، أو ببساطة غيّروا آراءهم. بل كانت الوثائق التي اعتُبرت ضدّهم، لا تدينهم، وهي لم تزد عن مقالات في الصحافة، وحضور اجتماعات، وبطاقات انتساب، لكنْ تُعزّزها مَحاضر تنصُّت، وآراء مخبرين وتقارير شرطة تتضمّن الثرثرات الشائعة عن علاقات عاطفية وجنسية، وأخبار زواج وطلاق، وتقارير عن الأقارب والمعارف.

وصف الأميركان هذه الحملة بأنها تعمل على عصر تنوير جديد يخصّ العالم أجمع، وكانت الحصيلة أنها زجّت بالثقافة في دهاليز المخابرات، ولم تخرج منها، فالثقافة باتت لها حصّة في الملفات الأمنية. هذا كان صنيع الأميركان، جاراهم فيه البريطانيون.

المثير أن الدكتاتوريات تسلّمت راية التنوير الجديد، وأخذت تتّهم المفكرين والأدباء بالعمالة للأميركان، وأحياناً للروس، ولم توفّر المُتديّنين والكفّار من العمالة، فكان هذا التنوير ظلاماً على الثقافة والمثقفين.