شغلتني في الشهر الماضي صورة الفلسطيني ، في الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين ، أكثر مما شغلتني أية فكرة أخرى ، وعدت بذاكرتي إلى الروايات التي قرأتها في العشرين سنة الأخيرة ، بل وإلى روايات نشرت في العقد الأخير من القرن العشرين ، مثل روايتي اللبناني الياس خوري ” مملكة الغرباء ” 1993 و “باب الشمس ” 1998 ورواية الجزائرية أحلام مستغانمي ” ذاكرة الجسد ” 1993 التي أتبعتها بجزئين هما ” فوضى الحواس ” 1998 و ” عابر سرير ” 2003 ظلت فيهما صورة الفلسطيني زياد الخليل ، إن لم تخني الذاكرة ، حاضرة .
كانت هناك ثلاثة أسباب وراء هذا الانشغال :
– الملف الذي خصصته محلة ” الجديد ” ( كانون الأول 2019 ) التي تصدر في أوروبا عن ” اليهود في الرواية العربية ”
– تقديم ورقة بحثية لمؤتمر جامعتي الزيتونة والأردنية سيعقد في آذار من العام الحالي 2020 .
– قراءة رواية أنعام كجه جي ” النبيذة ” التي صدرت في العامين الأخيرين 2018 ، والتقائي بكاتبتها في رام الله في ملتقى الرواية العربية في تموز .
ويضاف إلى الأسباب الثلاثة طلب الشاعر نوري الجراح ، وهو من المشرفين على مجلة “الجديد ” ، مني أن أكتب مراجعة لما تضمنه عددها المخصص لصورة اليهود .
طلب المجلة ولد في ذهني الفكرة الآتية :
– ما دامت المجلة خصصت عددا لصورة اليهود في الرواية العربية ، فلماذا لا تخصص أيضا ملفا آخر لصورة الفلسطيني ؟ ووجدتني أكتب إلى الناقد والروائي العراقي على عواد أطلب منه أن يخصص ملفا لصورة الفلسطيني في الرواية العربية .
وأنا أبحث عن صورة الفلسطيني في الرواية العربية توقفت أمام رواية ” المترجم الخائن ” 2008 وقرأت فيها ما لا يسر صديقا ولا يغيظ عدوا ، إذ تبدو الصورة سلبية ويختصرها عنوان الفصل الذي أتى على علاقة الفلسطيني بالفتاة السورية ليلى التي ارتبطت به :
” عباس :
الثورة التي لم تقبل بأنصاف الحلول ، تذهب إلى عالم التراجعات والتسويات ” ، وهو عنوان ذكرني مضمونه بعنوان كتابي ” أدب المقاومة من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات ” الذي صدر في طبعته الأولى في غزة في 1998 وفي طبعته الثانية في دمشق في العام 2007 – أي قبل عام من صدور الرواية .
والصحيح أنني أخذت أتذكر أعمالا أدبية فلسطينية تبرز لنا فيها هذه الصورة السلبية الصادرة عن روائي سوري متمكن ، وتساءلت إن كانت هناك دوافع وراء إبرازها هكذا في زمن صارت صورة اليهودي في الرواية العربية تتأنسن بعد أن كان ينظر إلى اليهود كأعداء وما يتبع صورة العدو من أوصاف .
لم تخل أعمالنا الأدبية التي صدرت قبل العام 2000 من نماذج سلبية جدا ، ولكن الصورة الإيجابية كانت تطغى .
وحتى العنوان الفرعي من رواية ” المترجم الخائن ” لا يخلو منها : ” الثورة التي لم تقبل بأنصاف الحلول ” ، وهو ما كان عليه الفلسطيني في الفصل نفسه ، فقد آثرت الفتاة السورية ليلى ، التي طلبها سوريون للزواج ، الفدائي الفلسطيني عباس حماد عليهم وتزوجت منه وقاطعت أهلها لأجله ، والتحقت بالثورة الفلسطينية وتحملت الكثير ، ولكن .. ، وهنا يأتي النصف الثاني من العنوان ليلخص المآل البائس للطموحات وللواقع : ” عالم التراجعات والتسويات ” ، ويقتل الفلسطيني الذي أحبته ليلى في تونس برصاص فلسطيني إثر اختلاف سياسي ؛ يقتل في لحظة نقاش سياسي وفي لحظة شرب بيرة ( ؟ ) .
هل كان فواز حداد قرأ قصيدتي محمود درويش ” أنت ، منذ الآن ، أنت ” و ” أنت ، منذ الآن ، غيرك ” ( أثر الفراشة 2007 ) وفي الأخيرة التي كتبها في أحداث غزة في انقلاب حماس في العام 2007 قال :
” من قال إننا استثناء ؟”
و
” رب عدو لك ولدته أمك ”
هل كان فواز حداد قرأ القصيدتين ؟
ولسوف تتجسد الصورة السلبية التي ظهرت للفلسطيني في ” المترجم الخائن ” في روايات فلسطينية عديدة أبرزها رواية سامية عيسى ” حليب التين ” (2011 ) وأعمال أخرى ، وكانت أصلا ظهرت في رواياتنا في الأرض المحتلة في العقد الأخير من القرن العشرين ( عادل الاسطة ” الوطن عندما يخون ” 1996 وأحمد حرب ” بقايا ” 1996 وأحمد رفيق عوض ” مقامات العشاق والتجار ” 1997 ) .
طبعا علينا ألا ننسى ، قبل أن نحاكم الكاتب ، النظر في الصورة التي يقدمها للسوريين أنفسهم ، وفي هذا ما يقلل من إمكانية الاستياء منه ، فالصورة التي قدمها للسوريين وللمثقفين كانت أيضا لا تختلف عن الصورة التي قدمها للفلسطينيين .
وأنا أقرأ الرواية كان في ذهني طبعا أسئلة أخرى يجب البحث عن إجابتها :
– من هو المؤلف وما هي مواقفه السياسية ؟
– كيف ننظر إلى هذه الرواية التي تطفح بالسخرية الجارحة المؤلمة للواقع السوري السياسي والثقافي ؟
– هل تبدو الصورة التي يرسمها مثلا لليسار تختلف عن الصورة التي بدت لهم في كتابات كتاب أسبق مثل الطاهر وطار ” الشاعرة الناشئة والرسام الكبير ” و ” اشتراكي حتى الموت ” 1974 ؟
– وماذا لو أمعنا النظر في روايات الياس خوري وهو محب للفلسطينيين وصديق لهم ؟ ألا نعثر على خيبات هذا الفلسطيني وما آل إليه في ” باب الشمس ” ؟
ولعل ما يشغلني الآن هو الصورة المشرقة للفلسطيني في روايات الكاتبات العربيات في الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين ، وهي صورة تكاد تكون إيجابية في المطلق .
كان عباس حماد التقى بليلى السورية في مخيم اليرموك ثم تزوجا وغادرا إلى بيروت وهناك التحق بمعسكرات المقاومة وقام بدوريات استطلاع لتنفيذ عمليات ضد العدو الصهيوني ، وفي أثناء غيابه تظل ليلى قلقة تنتظر عودته تشغلها الحيرة ويسكنها الخوف من أن يكون جرى له شيء ، ولم ترض أن تكون ربة بيت فقط ، فقد شاركت في نشاطات تخدم الثورة الفلسطينية ، وبعد حرب أيلول ١٩٨٢ وخروج المقاومة من لبنان وتشتتها تشتت ليلى مع الفلسطينيين وأقامت في بلدان عديدة ثم استقر المقام بها وبزوجها عباس في تونس وهناك صارت حياتهما معا جحيما لا يطاق .
صار عباس حماد يعود إلى بيته في ساعات متأخرة مع أصدقائه ويطلب منها أن تعد لهم الطعام وتحرص على خدمتهم ، وحين ترفض كان يشتمها ويضربها ويلعن الساعة التي تعرف فيها عليها في مخيم اليرموك الذي لم الزبالة . وصارت هي بدورها تشتمه وتدافع عن نفسها ، ما جعله في بعض الأحيان يطردها من البيت إلى الشارع ، وتضطر إلى العودة إلى البيت راضية بهذه العيشة المذلة ، فيتصالحان معا ويضمها ويواصلان حياتهما على هذا المنوال .
في لحظات التفكير بالإنجاب كانت تتراجع عن الفكرة لأنها لا تريد أن تخلف بنات يتزوجن حين يكبرن من فدائيين يضربنهن ، وقد رضيت ليلى بمواصلة حياتها مع عباس حماد لأنها قطعت صلاتها بأهلها بسبب زواجها منه .
وتبلغ المأساة قمتها في علاقتهما السيئة حين يغدو موسوسا ، ففي تونس ” أمسى الفتى الذي أحبته مناضلا عاطلا عن النضال ” وأخذ ينظر إليها على أنها مخبرة تعمل لصالح جهات معادية ، واضطرت ، بسبب الإرهاق الذي بدا عليه ، ولشفقتها عليه وتمني النوم إلى حد الرغبة في الموت … إلى الاعتراف بأنها كانت جاسوسة تنقل أخبار المقاومة للمخابرات السورية والأميركية والإسرائيلية ” .
لقد فكرت ليلى بقتل نفسها ، ولم تفكر بالتخلي عنه ولا الهرب منه ، كانا معا في الضراء المتوالي ، والنفي المتلاحق ، متعاهدين على عذاب تقاسماه مناصفة ، وطالما تمنت ، بل وسوف يتراءى لها أن مصيرا واحدا لا غيره ، سيجمعهما معا … ” .
ماذا لو قابلنا هذه الصورة بصورتنا في رواية سامية عيسى ” حليب التين ” وتتبعنا مآل الثورة و مآل زوجة الشهيد وعلاقة رجال المنظمة بهم؟ وماذا لو قابلنا بين صورة الفلسطينيين في تونس بعد 1982 بصورتهم هنا في رواية مايا أبو الحيات التي تأتي أيضا على الموضوع نفسه في تونس ؟
أغلب الظن أننا لن نجد كبير اختلاف .
هكذا صور الفلسطيني في الرواية ؛ في لحظة صعوده وألقه إلى لحظة انحداره وضياعه وموته ميتة بائسة أسوأ من ميتة أبطال غسان كنفاني في روايته ” رجال في الشمس ” 1963 .
هل نقرأ في الرواية الفلسطينية نماذج تشبه نموذج عباس حماد ؟
هنا يمكن التوقف أمام النماذج الأدبية التي كتبت إثر نكبة ١٩٤٨ ، كما يمكن الوقوف أمام نماذج أخرى تشابه الفلسطيني فيها مع نموذج عباس حماد ، وأشير هنا إلى رواية مايا أبو الحيات ” لا أحد يعرف زمرة دمه ” 2013 .
النماذج الأدبية الفلسطينية التي كتبت قبل العام ١٩٧٠ وفيها نقرأ عن فلسطيني سكير ويضرب زوجته وعاطل عن العمل هي قصة سميرة عزام ” لأنه يحبهم ” من مجموعة ” الساعة والإنسان ” 1964 ورواية غسان كنفاني ” أم سعد ” 1969 . وأبو سعد كان سكيرا عاطلا عن العمل وقبله أحد شخصيات قصة عزام .
ما أود أن اختتم به الكتابة هو أن صورة الفلسطيني في الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين ليست سلبية في المطلق ، فهناك من رسم له صورة إيجابية تماما ، وهو ما توقفت أمامه وأنا أكتب عن رواية الكاتبة العراقية أنعام كجه جي ” النبيذة ” وهو ما يشغلني هذا الشهر عموما .