بعد سقوط نظام الأسد، انقسم السوريون إلى فئات عدّة، كي لا نقول أقليات وكيانات ومثقفين وعامة الناس، يمكن تلخيصهم بفريقَين؛ فريق رأى في سقوط الأسد خلاصاً من الدكتاتورية، وآن الأوان ليعيش حياة طبيعية. أما الفريق الثاني، فأكثر من جهة، منهم من رأى في القادمين الجدد كارثة، بعدما افتقدوا حاميهم ورازقهم، ومنهم من رأى أن من اختلس السلطة يجب عليه التنازل عنها، ويُعهد بها إليهم، لإقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية، وهناك من كان ضدّها لمجرد شعوره بالقلق من الإسلام، لما التصق به من جهاد وشريعة. وهناك من وجد الفرصة سانحة للانفصال.
حسناً، إلى أين نحن ذاهبون؟ قرر أطراف الفريق الثاني الذهاب إلى حيث لا تذهب السلطة الجديدة، ولم يكن غريباً أن يبتكر كل منهم ما يؤيد أسبابه، من مخاوف، لأنه يرى بعيداً جداً، ولم يكن ضرباً بالغيب، فلديهم مجلدات من الأسانيد مستقاة من تجارب الثورات والديمقراطيات الغربية والحروب الدينية طويلة النفس، هل تريدون حرباً على هذا النمط؟ العقائد والمذاهب متوفّرة، والأسلحة أيضاً. عدا حجج كثيرة، ولو لم تكن واقعية، مجرد تعليلات وذرائع، كانت الأكثر توفّراً، ساعدت على التمترس في الخنادق، واندلاع إلى اشتباكات مسلحة حقيقية، ووقوع ضحايا، طبعاً لم يعترف كل طرف إلّا بضحاياه، واعتبر ضحايا الآخر لا أكثر من مزاعم، وأعلن مظلوميّته، وهذا يحتاج إلى الكثير من ادّعاء البراءة، ولو كانت السكاكين تقطر دماً، مع أنه لا يمكن تبرئة طرف. عموماً، أصبح لهذه الأطراف: أكاذيبها، ونكاياتها ومكائدها، ونكباتها، وشهداؤها أيضاً.
لم يتح للمثقفين حمل السلاح، فاكتفوا بالتحريض والشماتة، ألم نقل لكم؟ واتخذوا مواقف ضدّ السلطة، تحولت إلى قيود عليهم، ارتاحوا إليها، ولم يفكروا في مغادرتها، يعيدون تفسير كل حدث أو معلومة لتناسبها، يفكرون من خلالها، وفي غنى عن واقع بمرمى البصر. لم يعد البحث عن الحقيقة، وإنما عن تسجيل انتصار على السلطة التي أصيبت بشتى الاتهامات، وكانت جاهزة لارتكاب الأخطاء، طالما المؤهلات ضعيفة، والكفاءات متواضعة. ولا نتصور أن نقاشاً جاداً أو جدالاً عميقاً، ولو كان تحت غطاء أكاديمي، إلّا كانت حصيلته مهاترات، رافقها إعلاميون دؤوبون، يشعلون النار من تحتها، بما يبثونه من هرطقات وتهريج وإسفاف.
لم يتح للمثقفين حمل السلاح، فاكتفوا بالتحريض والشماتة
بالنسبة للجمهور من الشباب الذي سار في ركابهم، يخشى أن يصبح من القطيع، القابلية للتشبث بالمواقف الجاهزة أسهل سواء كانت عن شجاعة أو عدم دراية، ما يضعهم في خندق، ليس بالمستطاع التراجع عنه، ما دام أنهم امتلكوا الحقيقة، فلماذا يستمعون للآخر، أو يراجعوا سردية أصبحت موثوقة، تحت زعم الثبات على الموقف، بينما هي وصفة للخراب.
بينما هناك شعب يقارب تعداده بين الداخل والخارج 25 مليوناً، منهم من لديه سقف يحميه من البرد والحر، أو خيمة أو بلا سقف، ولاجئون يتوقون إلى العودة. واليوم، مع استمرار اللامبالاة، قد تتحول سورية إلى ساحة للعصابات المسلّحة، وتذهب إلى الصوملة، ولن تنجو الكانتونات والإقطاعيات والإمارات الموعودة بالرخاء والاستقلال.
الناس تريد أن تعيش، تريد الأمان، تريد السلام، يريدون أن يحبوا ويتزوجوا وينجبوا، وأن يعود الأطفال إلى المدارس… هؤلاء الناس ليسوا فاشيين ولا نازيين ولا عملاء ولا جهاديين.
يحمل هذا المقال قدراً من المرارة والسخرية، وهذا مقصود؛ لأن هؤلاء الذين يعتقدون أن مقاصدهم نبيلة، يتميزون بالصلف الثقافي، والانتهازية اللاأخلاقية، بتجاهل معيشة الناس وأمانهم، وإمكانية إيجاد مخارج واقعية وعقلانية، لما نحن فيه من دون تنافس على من يكون الأكثر ضراوة وطعناً بالسلطة.
لا نقول ساعدوا هذه السلطة، نقول ساعدوا الناس، لو تحققت أمنياتكم، فليس هناك سوى عشرية من الفوضى، وربما أكثر.
-
المصدر :
- العربي الجديد